سأل سائل عن آيتين متعارضتين فعلاه بالدرة ، وكما روي عن مالك رحمهالله أنه سئل عن الاستواء فقال : الاستواء معلوم ، والإيمان به واجب ، والكيفية مجهولة ، والسؤال عنه بدعة.
المقام الثاني : بين النظار الذين اضطربت عقائدهم المأثورة المروية ، فينبغي أن يكون بحثهم بقدر الضرورة ، وتركهم الظاهر بضرورة البرهان القاطع ، ولا ينبغي أن يكفر بعضهم بعضا بأن يراه غالطا فيما يعتقده برهانا ، فإن ذلك ليس أمرا هينا سهل المدرك وليكن للبرهان بينهم قانون متّفق عليه يعترف كلهم به ، فإنهم إذا لم يتفقوا في الميزان لم يمكنهم رفع الخلاف بالوزن ، وقد ذكرنا الموازين الخمسة في كتاب (القسطاس المستقيم) ، وهي التي لا يتصور الخلاف فيها بعد فهمها أصلا ، بل يعترف كل من فهمها بأنها مدارك اليقين قطعا ، والمحصلون لها يسهل عليهم عقد الإنصاف والانتصاف وكشف الغطاء ورفع الاختلاف ، ولكن لا يستحيل منهم الاختلاف أيضا إما لقصور بعضهم عن إدراك تمام شروطه. وإما في رجوعهم في النظر إلى محض القريحة والطبع دون الوزن بالميزان ، كالذي يرجع بعد تمام تعلم العروض في الشعر إلى الذوق لاستثقاله عرض كل شعر على العروض فلا يبعد أن يغلط ، وإما لاختلافهم في العلوم التي هي مقدمات البراهين ، فإن من العلوم التي هي أصول البراهين تجريبية وتواترية وغيرها ، والناس يختلفون في التجربة والتواتر فقد يتواتر عند واحد ما لا يتواتر عند غيره ، وقد يتولى تجربة ما لا يتولاه غيره. وإما لالتباس قضايا الوهم بقضايا العقل. وإما لالتباس الكلمات المشهورة المحمودة بالضروريات والأوليات كما فصلنا ذلك في كتاب (محكّ النظر) ، ولكن بالجملة إذا حصلوا تلك الموازين ، وحققوها أمكنهم الوقوف عند ترك العناد على موقع الغلط على يسر.
فصل في التأويل بغلبات الظنون
من الناس من يبادر إلى التأويل بغلبات الظنون من غير برهان قاطع ولا ينبغي أن يبادر أيضا إلى كفره في كل مقام بل ينظر فيه ، فإن كان تأويله في أمر لا يتعلق بأصول العقائد ومعماتها فلا نكفره ، وذلك كقول بعض الصوفية إن المراد برؤية الخليل عليهالسلام الكوكب والقمر والشمس ، وقوله هذا ربي غير ظاهرها ، بل هي جواهر نورانية ملكية ونورانيتها عقلية لا حسيّة ولها درجات في الكمال. ونسبة ما بينها في التفاوت كنسبة الكواكب والقمر والشمس ، ويستدلّ عليه بأن الخليل عليهالسلام أجلّ من أن يعتقد في جسم أنه إله حتى يحتاج إلى أن يشاهد أفوله. أفترى أنه لو لم يأفل أكان يتّخذه إلها ، ولو لم يعرف استحالة الإلهية من حيث كونه جسما مقدرا ، واستدلّ بأنه كيف يمكن أن يكون أوّل ما رآه الكوكب والشمس هي الأظهر وهي أول ما يرى : واستدل بأن الله تعالى قال أوّلا : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥]. ثم حكى هذا القول فكيف يمكن أن يتوهم ذلك بعد كشف الملكوت له ، وهذه دلالات ظنية وليست براهين.
أمّا قوله ، هو أجلّ من ذلك ، فقد قيل إنه كان صبيا لما جرى له ذلك ولا يبعد أن يخطر لمن سيكون نبيا في صباه مثل هذا الخاطر ، ثم يتجاوزه على قرب ولا يبعد أن تكون دلالة