المرادون بقوله عليه الصلاة والسلام : " ستفترق أمّتي بضعا وسبعين فرقة كلّهم في الجنّة إلّا الزّنادقة وهي فرقة". هذا لفظ الحديث في بعض الروايات وظاهر الحديث يدلّ على أنه أراد به الزنادقة من أمّته ، إذ قال : " ستفترق أمّتي" ، ومن لم يعترف بنبوّته ليس من أمّته والذين ينكرون أصل المعاد وأصل الصانع فليسوا معترفين بنبوته إذ يزعمون أن الموت عدم محض ، وأن العالم لم يزل كذلك موجودا بنفسه من غير صانع ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. وينسبون الأنبياء إلى التلبيس فلا يمكن نسبتهم إلى الأمة ، فإذا لا معنى لزندقة هذه الأمة إلا ما ذكرناه.
فصل في بيان الزندقة المطلقة
اعلم أن شرح ما يكفر به وما لا يكفر به يستدعي تفصيلا يفتقر إلى ذكر كل المقالات والمذاهب ، وذكر شبهة كل واحد ، ودليله ووجه بعده عن الظاهر ووجه تأويله ، وذلك لا يحويه مجلدات ولا تتسع لشرح ذلك أوقاتي فاقنع الآن بوصية وقانون.
أمّا الوصية : فأن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ما داموا قائلين لا إله إلّا الله محمّد رسول الله غير مناقضين لها. والمناقضة تجويزهم الكذب على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعذر أو غير عذر ، فإن التفكير فيه خطر والسكوت لا خطر فيه.
وأمّا القانون : فهو أن تعلم أن النظريات قسمان : قسم يتعلق بأصول القواعد ، وقسم يتعلق بالفروع ، وأصول الإيمان ثلاثة : الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر وما عداه فروع. واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلا إلّا في مسألة واحدة وهي أن ينكر أصلا دينيا علم من الرسول صلىاللهعليهوسلم بالتواتر ، لكن في بعضها تخطئة كما في الفقهيات وفي بعضها تبديع كالخطاء المتعلق بالإمامة وأحوال الصحابة.
واعلم أن الخطأ في أصل الإمامة وتعينها وشروطها وما يتعلّق بها لا يوجب شيء منه تكفيرا. فقد أنكر ابن كيسان أصل وجوب الإمامة ولا يلزم تكفيره ولا يلتفت إلى قوم يعظمون أمر الإمامة ويجعلون الإيمان بالإمام مقرونا بالإيمان بالله وبرسوله ، ولا إلى خصومهم المكفرين لهم بمجرد مذهبهم في الإمامة فكل ذلك إسراف إذ ليس في واحد من القولين تكذيب للرسول صلىاللهعليهوسلم أصلا ، ومهما وجد التكذيب وجب التفكير وإن كان في الفروع. فلو قال قائل مثلا : البيت الذي بمكّة ليس الكعبة التي أمر الله تعالى بحجها فهذا كفر ، إذ قد ثبت تواترا عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم خلافه ، ولو أنكر شهادة الرسول لذلك البيت بأنه الكعبة لم ينفعه إنكاره ، بل يعلم قطعا أنه معاند في إنكاره إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ، ولم يتواتر عنده ذلك ، وكذلك من نسب عائشة رضي الله عنها إلى الفاحشة ، وقد نزل القرآن ببراءتها فهو كافر لأن هذا وأمثاله لا يمكن إلا بتكذيب الرسول أو إنكار التواتر ، والتواتر ينكره الإنسان بلسانه ولا يمكنه أن يجهله بقلبه. نعم لو أنكر ما ثبت بأخبار الآحاد فلا يلزمه به الكفر ولو أنكر ما ثبت بالإجماع ، فهذا فيه نظر لأن معرفة كون الإجماع حجّة قاطعة فيه غموض يعرفه المحصّلون لعلم أصول الفقه. وأنكر النظام كون الإجماع حجّة أصلا فصار كون الإجماع حجّة مختلف فيه فهذا حكم الفروع.