المحسوسات ولا تدرك الأصوات ولا الروائح والطعوم والحرارة والبرودة والقوى المدركة. أعني قوة السمع والشم والذوق ، بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح والسرور والغم والحزن والألم واللذة والعشق والشهوة والقدرة والإرادة والعلم إلى غير ذلك من موجودات لا تحصى ولا تعد ، فهو ضيق المجال مختصر المجرى لا تسعه مجاوزة عالم الألوان والأشكال وهما أخس الموجودات ، فإن الأجسام في نفسها أخسّ أقسام الموجودات والألوان ، والأشكال من أخس أعراضها ، والموجودات كلها مجال العقل إذ يدرك هذه الموجودات التي عددناها وما لم نعده وهو الأكثر فيتصرف في جميعها ويحكم عليها حكما يقينا صادقا ، فالأسرار الباطنة عنده ظاهرة والمعاني الخفية عنده جلية ، فمن أين للعين الباصرة مساواته في استحقاق اسم النور. كلا بها نور بالإضافة إلى غيرها ولكنها ظلمة بالإضافة إليه ، بل هي جاسوس من جواسيسه وكلها بأخس خزائنه وهي خزانة الألوان والأشكال لترفع إلى حضرته أخبارها فيقضي فيها بما يقتضيه رأيه الثاقب وحكمه النافذ ، والحواس جواسيسه سواها وهي من خيال ووهم وفكر وذكر وحفظ ووراءهم خدم وجنود مسخرة له في عالمه الحاضر يسخرهم ويتصرف فيهم استسخار الملك عبيده بل أشد ، وشرح ذلك يطول ، وقد شرحناه في كتاب عجائب القلب من كتب الإحياء.
السادسة : أن العين لا تبصر ما لا نهاية له فإنها تبصر صفات الأجسام المعلومات. والأجسام لا تتصور إلا متناهية والعقل يدرك المعقولات والمعقولات لا تتصور أن تكون متناهية ، نعم إذا لاحظ العلوم المتحصلة فلا يكون الحاضر الحاصل عنده إلا متناهيا لكن في قوته إدراك ما لا نهاية له. وشرح ذلك يطول فإن أردت له مثالا فخذ من الحساب فإنه يدرك الأعداد ولا نهاية لها نهاية ويدرك تضعيفات الاثنين والثلاثة وسائر الأعداد ولا يتصور لها نهاية ويدرك أنواعا من النسب بين الأعداد ولا يتصور لها نهاية ، بل يدرك علمه بالشيء وعلمه بعلمه بالشيء وعلمه بعلمه بعلمه ، وقوته في هذا الوجه أيضا لا تقف عند نهاية.
السابعة : أن العين تدرك الكبير صغيرا فترى الشمس في مقدار بحر والكواكب في صور دنانير منثورة على بساط أزرق والعقل يدرك أن الكواكب والشمس أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة ، ويرى الكواكب ساكنة بل يرى الظل بين يديه ساكنا ، ويرى الصبي ساكنا في مقداره. والعقل يدرك أن الصبي يتحرك في النمو والتزايد على الدوام والظل متحركا دائما والكواكب تتحرك في كل لحظة أميالا كثيرة كما قال صلىاللهعليهوسلم لجبريل : " أزالت الشّمس؟ فقال : لا. نعم" قال : وكيف؟ قال : " منذ قلت لا إلى أن قلت نعم قد تحرّكت مسيرة خمسمائة عام". وأنواع غلط البصر كثيرة والعقل منزه عنها ، فإن قلت نرى العقلاء يغلطون في نظرهم فاعلم أن خيالاتهم وأوهامهم قد تحكم باعتقادات يظنون أن أحكامها أحكام العقل فالغلط منسوب إليها. وقد شرحنا مجامعها في كتاب معيار العلم وكتاب محكّ النظر ، فأما العقل إذا تجرد عن غشاوة الوهم والخيال لم يتصور أن يغلط بل يرى الأشياء على ما هي عليه وفي تجرده عسر ،