من بعض ، فالأقرب من المنبع الأول أولى باسم النور لأنه أعلى رتبة. ومثال ترتيبها في عالم الشهادة لا يدركه الإنسان إلا بأن يبصر ضوء القمر داخلا في كوة بيت واقعا على مرآة منصوبة على حائط منعطفا منها على حائط آخر في مقابلتها ، ثم منعطفا منها على الأرض بحيث تستنير منه الأرض ، فأنت تعلم أن ما على الأرض من النور تابع لما على الحائط ، وما على الحائط تابع لما على المرآة ، وما على المرآة تابع للقمر ، وما في القمر تابع لما في الشمس إذ منها يشرق النور على القمر. وهذه الأنوار الأربعة مترتبة بعضها أعلى من بعض وأكمل من بعض ، ولكل واحد مقام معلوم ودرجة خاصة لا يتعداها ، فاعلم أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن الأنوار الملكوتية إنما وجدت على ترتيب كذلك ، وأن المقرب هو الأقرب تقرب إلى النور الأقصى فلا يبعد أن تكون رتبة إسرافيل فوق رتبة جبريل وأن فيهم الأقرب الذي تقرب درجته من حضرة الربوبية التي هي منبع الأنوار كلها وأن فيهم الأدنى وبينهم درجات تستعصي عن الإحصاء ، وإنما المعلوم كثرتهم وترقيهم في صفوفهم وأنهم كما وصفوا به أنفسهم إذ قالوا : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) [الصافات : ١٦٤. ١٦٦].
دقيقة : إذا عرفت أن الأنوار لها ترتيب ، فاعلم أنها لا تتسلسل إلى غير نهاية ، بل ترتقي إلى منبع أول وهو النور لذاته وبذاته ليس يأتيه نور من غيره ومنه تشرق الأنوار كلها على ترتيبها. فانظر الآن هل اسم النور أحق وأولى بالمستنير المستعير نوره من غيره أو بالمنير في ذاته المنور لكل ما سواه؟ فما عندي أنه يخفى عليك الحق فيه وبه تتحقق أن اسم النور أحق بالنور الأقصى الأعلى الذي لا نور فوقه ومنه ينزل النور إلى غيره.
حقيقة : بل أقول ولا أبالي أن اسم النور غير النور الأولي مجاز محض ، إذ كل ما سواه إذا اعتبرت ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له بل نوره مستعار من غيره ولا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها بل بغيرها. ونسبة المستعار مجاز محض أفترى أن من استعار ثيابا وفرسا ومركبا وسرجا وركبه في الوقت الذي أركبه المعير ، وعلى الحد الذي رسمه له غني بالحقيقة أو بالمجاز أو أن المعير هو الغني كلا بل المستعير هو فقير في نفسه كما كان ، وإنما الغني هو المعير الذي منه الإعارة والاعطاء وإليه الاسترداد والانتزاع ، فإذا النور الحق هو الذي بيده الخلق والأمر ، ومنه الإنارة أولا ، والإدامة ثانيا فلا شركة لأحد معه في حقيقة هذا الاسم ولا في استحقاقه إلا من حيث تسميته به ، ويتفضل عليه بتسميته إياه تفضل المالك على عبده إذا أعطاه مالا ثم سماه مالكا ، وإذا انكشف للعبد هذه الحقيقة علم أنه وماله ملك لمالكه على التفرد لا شريك له فيه أصلا.
حقيقة : مهما عرفت أن النور راجع إلى الظهور والإظهار ومراتبه ، فاعلم أنه لا ظلمة أشد من ظلمة العدم لأنه مظلم ، وسمي مظلما لأنه ليس يظهر للأبصار إذ ليس يصير موجودا للبصر مع أنه موجود في نفسه فالذي ليس موجودا لغيره ولا لنفسه كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة وفي مقابلته الوجود فهو النور ، فإن الشيء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر