لغيره ، والوجود بنفسه أيضا ينقسم إلى ما له الوجود من ذاته وإلى ما له الوجود من غيره. وماله الوجود من غيره فوجوده مستعار لا قوام له بنفسه ، بل إذا نسبته إلى غيره وليس ذلك بوجود حقيقي كما عرفت في مثال استعارة الثوب والغنى ، فالموجود الحق هو الله تعالى كما أن النور الحق هو الله تعالى.
حقيقة الحقائق : من هاهنا يترقى العارفون من حضيض المجاز إلى ذروة الحقيقة واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله وأن كل شيء هالك إلا وجهه ، لأنه يصير هالكا في وقت من الأوقات ، بل هو هالك أزلا وأبدا إذ لا يتصور إلا كذلك ، فإن كل شيء سواه إذا اعتبرت ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض ، وإذا اعتبر من الوجه الذي يسري إليه الوجود من الأول الحق رئي موجودا لا في ذاته بل من الوجه الذي يلي موجده فيكون الموجود وجه الله فقط. ولكل شيء وجهان : وجه إلى نفسه ، ووجه إلى ربه. فهو باعتبار وجه نفسه عدم ، وباعتبار وجه الله وجود ، فإذا لا موجود إلا الله ووجهه ، فإذا كل شيء هالك إلا وجهه أزلا وأبدا. ولم يفتقر هؤلاء إلى قيام القيامة ليستمعوا نداء الباري : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦]. بل هذا النداء لا يفارق سمعهم أبدا ، ولم يفهموا معنى قوله" الله أكبر" أنه أكبر من غيره. حاشى لله إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون هو أكبر منه ، بل ليس لغيره رتبة المعية بل رتبة التبعية ، بل ليس لغيره وجود إلا من الوجه الذي يليه فالموجود وجهه فقط ، ومحال أن يكون أكبر من وجهه بل معناه أكبر من أن يقال له أكبر بمعنى الإضافة والمقايسة وأكبر من أن يدرك غيره كنه كبريائه نبيا كان أو ملكا ، بل لا يعرف الله كنه معرفته إلا هو إذ كل معروف داخل تحت سلطان العارف واستيلائه وذلك ينافي الجلال والكبرياء. وهذا له تحقق ذكرناه في كتاب : " المقصد الأسنى في معاني أسماء الله الحسنى".
إشارة : العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق ، لكن منهم من كان له هذه الحالة عرفانا علميا ومنهم من صار له ذوقا وحالا وانتفت عنهم الكثرة بالكلية ، واستغرقوا بالفردانية المحضة ، واستهوت فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه ولم يبق فيهم متسع لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضا ، فلم يبق عندهم إلا الله فسكروا سكرا وقع دونه سلطان عقولهم ، فقال بعضهم : أنا الحق. وقال الآخر : سبحاني ما أعظم شأني. وقال الآخر : ما في الجنة إلا الله ، وكلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يحكى فلما خف عنهم سكرهم وردوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان الله في أرضه عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل يشبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرض العشق :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا |
|
نحن روحان حللنا بدنا |
فلا يبعد أن يفجأ الإنسان مرآة فينظر فيها ، ولم ير المرآة قط ، فيظن أن الصور التي رآها في المرآة هي صورة المرآة متحدة بها ، ويرى الخمر في الزجاج فيظن أن الخمرة لون الزجاج