فإذا صار ذلك عنده مألوفا ورسخ فيه قدمه استغرقه فقال :
رقّ الزّجاج وراقت الخمر |
|
وتشابها فتشاكل الأمر |
فكأنّما خمر ولا قدح |
|
وكأنّما قدح ولا خمر |
وفرق بين أن يقال الخمر قدح وبين أن يقال كأنه قدح ، وهذه الحالة إذا غلبت سميت بالإضافة إلى صاحب الحال فناء ، بل فناء لأنه فني عن نفسه وفني عن فنائه ، فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال ولا بعد شعوره بنفسه ، ولو شعر بعدم شعوره بنفسه لكان قد شعر بنفسه ، وتسمى هذه الحال بالإضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز اتحادا ، وبلسان الحقيقة توحيدا ، ووراء هذه الحقائق أيضا أسرار لا يجوز الخوض فيها.
خاتمة : لعلك تشتهي أن تعرف وجه إضافة نور إلى السماوات والأرض ، بل وجه كونه في ذاته نور السماوات والأرض ، ولا ينبغي أن يخفى ذلك عليك بعد أن عرفت أنه النور ولا نور سواه وأنه كل الأنوار وأنه النور الكلي ، لأن النور عبارة عما تنكشف به الأشياء وأعلى منه ما ينكشف به وله أعلى منه ما ينكشف به وله ومنه وأن الحقيقي منه ما ينكشف به وله ومنه وليس فوقه نور منه اقتباسه واستمداده بل ذلك له في ذاته من ذاته لا من غيره ، ثم عرفت أن هذا لا يتصور ولن يتصف به إلا النور الأول ، ثم عرفت أن السماوات والأرض مشحونة نورا من طبيعة النور. أعني المنسوب إلى البصر والبصيرة أي إلى الحس والعقل.
أما البصري فما تشاهده في السماوات من الكواكب والشمس والقمر وما تشاهده في الأرض من الأشعة المنبسطة على كل ما في الأرض حتى ظهرت به الألوان المختلفة خصوصا في الربيع ، وعلى كل حال من الحيوانات والنباتات والمعادن وأصناف الموجودات ولولاها لم يكن للألوان ظهور بل وجود ، ثم سائر ما يظهر للحس من الأشكال والمقادير يدرك تبعا للألوان ولا يتصور إدراكها إلا بواسطتها.
أما الأنوار العقلية المعنوية فالعالم الأعلى مشحون بها وهي جواهر الملائكة ، والعالم الأسفل مشحون بها وهي الحياة الحيوانية ثم الإنسانية وبالنور الإنساني السفلي ظهر نظام العالم السفلي كما أن بالنور الملكي ظهر نظام العالم العلوي وهو المعنيّ بقوله : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) [هود : ٦١]. وقال : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور : ٥٥]. وقال : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) [النمل : ٦٢]. وقال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: ٣٠]. فإذا عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار الظاهرة البصرية والباطنة العقلية ، ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من السراج ، وأن السراج هو النور النبوي القدسي ، وأن الأرواح النبوية القدسية مقتبسة من الأرواح العلوية اقتباس السراج من النار. وأن العلويات بعضها مقتبس من بعض ، وأن ترتيبها ترتيب مقامات ، ثم ترتقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول ، وأن ذلك وهو الله وحده لا شريك له ، وأن سائر