الطيران ، فإنه لو خلقت فراخه في جوفه حتى يكمل خلقها لثقل بها. وتعوق عن النهوض للطيران ، أفلا ترى كيف دبر كل شيء من خلقه بما يليق به من الحكمة. انظر إلى من أنزله وألهمه الرقاد على بيضه فيحضنه مدة الحضانة ، من ألهمه أن يلتقط الحب ، فإذا ماع في باطنه غذى به أفراخه وهذا نوع من الطير ، ثم انظر مع هذا كيف احتمل هذه المشقة ، وليست له رؤية ولا فكر في عاقبة ، ولا له أمل يأمله في أفراخه كما يأمل الإنسان في ولده من العز والرفد وبقاء الذكر. فهل هذا قطعا إلا إلهام إلهي من فعل الله سبحانه.
انظر كيف ألهم معرفة حمل الأنثى منه بالبيض ، فألهموا حينئذ حمل الحشيش وتوطئته في موضع التحضين والولادة لتكون الرطوبة والتوطئة تحفظ البيض ويكون البيض محفوظا في المهاد الذي يمهدونه ويستحسنونه في حال تحضينه.
انظر إلى الحمام كيف ألهم معرفة كمال الفرخ وانتهاء تحضينه للبيض حتى يكتشف عن الفرخ ويخرجه ، وإن اتفق في البيض فساد بسبب عرق قام وتركه ، ثم انظر إلهامه بما يزق به فرخه فإنه أولا يزقه بالريح لتستعد حوصلته لقبول ما يوضع فيها. ثم بعد ذلك يزقه من أول هضم ، ثم إذا ماع الغذاء في حوصلته يزقه به حتى يدرجه يفعل مرارا حتى يولي حوصلته ، فإنه لو أرسله إليه حبا صحيحا لعجز عن هضمه لضعف جسده ، فانظر إن كان هذا من فعل الطير وحكمته ، ثم انظر عند خروج الفرخ من البيضة كيف يسنده إلى جنبه لئلا يفقد الحرارة دفعة واحدة فيضر ذلك به ، ومن الطير مما يخلق على هيئة أخرى لحكمة أخرى ولتعلم أن قدرة الله لا تنحصر في نوع واحد ، بل كل حال له حكم يقوم بمصلحة ذلك الشيء ، وذلك أن الدجاج ما فيهم أهلية الزق ، بل جعلت أفراخهم يلتقطون غذاءهم عند خروجهم من البيضة ، ثم انظر في الحمام الذكر والأنثى كيف يتداولان على التسخين خوف أن يفسد بيضهم فيعقب هذا صاحبه كأن لهم علما بأن عدم هذا التدبير يفسد به بيضهم ، ثم انظر إلى خلق البيضة وما فيها من الحكم لله ففيها المح الأصفر الحابر والماء الأبيض الرقيق فبعضه لينشأ منه جسده. وبعضه يغتذي به إلى أن تنشق عنه ، وما في ذلك من التدبير المحكم العجيب ، وكيف جعل معه غذاءه في بيضة مغلقة تتنقى به إلى حين كماله فيها وخروجه منها ، ثم انظر في حوصلة الطائر وما في حلقها من التدبير فإن مسلك طعامه إلى القانصة ضيق لا ينفذ إليه إلا قليلا قليلا ، فلو كان لا يلتقط حبه حتى تصل الأولى إلى القانصة لطال الأمر عليه مع ما فيه من شدة الحذر وتجنبه ما يؤذيه ، فصار ما يحتكره احتراسا لشدة حذره ، فجعلت له الحوصلة كالمخلاة المعلقة أمامه ليؤدي فيها ما أدرك من الطعام بسرعة ثم ينفذ إلى القانصة على مهل ، وفيها حكمة أخرى ، فإن الطير الذي يزق أفراخه يكون رده الطعام من قرب أسهل عليه ، ثم تأمل ريش الطائر فإنك تجده منسوجا نسج الثوب من سلوك رقاق ، وفيها من اليبس ما يمسك ما حولها ، ومن اللين ما لا ينكسر معه وهي حاوية ، قد ألف بعضها إلى بعض ، كتأليف الخيط إلى الخيط والشعر إلى الشعر ، ثم تجده إذا فتحته أعني النسيج ينفتح