كل عالم سوى المتجردين لعلم السباحة في بحار المعرفة القاصرين أعمارهم عليه ، الصارفين وجوههم عن الدنيا والشهوات ، المعرضين عن المال والجاه والخلق وسائر اللذات ، المخلصين لله تعالى في العلوم والأعمال ، بجميع حدود الشريعة وآدابها في القيام بالطاعات وترك المنكرات ، المفرغين قلوبهم بالجملة عن غير الله تعالى لله ، المستحقرين للدنيا بل الآخرة والفردوس الأعلى في جنب محبة الله تعالى ، فهؤلاء هم أهل الغوص في بحر المعرفة وهم مع ذلك كله على خطر عظيم يهلك من العشرة تسعة إلى أن يسعد واحد بالدر المكنون والسر المخزون ، أولئك الذين سبقت لهم من الله الحسنى فهم الفائزون : (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) [القصص : ٦٩].
الموضع الثالث : تأويل العارف مع نفسه في سر قلبه بينه وبين ربه وهو على ثلاثة أوجه ، فإن الذي انقدح في سره أن المراد من لفظ الاستواء والفوق مثلا إما أن يكون مقطوعا به أو مشكوكا فيه أو مظنونا ظنا غالبا. فإن كان قطعيا فليعتقده ، وإن كان مشكوكا فليجتنبه ولا يحكمن على مراد الله ورسولهصلىاللهعليهوسلم من كلامه باحتمال يعارضه مثله من غير ترجيح ، بل الواجب على الشاك التوقف ، وإن كان مظنونا فاعلم أن للظن متعلقين : أحدهما : أن المعنى الذي انقدح عنده هل هو جائز في حق الله تعالى أم هو محال؟ والثاني : أن يعلم قطعا جوازه لكن تردد في أنه هل هو مراده أم لا؟
مثال الأول : تأويل لفظ الفوق بالعلو المعنوي الذي هو المراد بقولنا : السلطان فوق الوزير ، فإنا لا نشك في ثبوت معناها لله تعالى لكنا ربما نتردد في أن لفظ الفوق في قوله (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٥٠]. هل أريد به العلو المعنوي أم أريد به معنى آخر يليق بجلال الله تعالى دون العلو بالمكان الذي هو محال على ما ليس بجسم ولا هو صفة في جسم.
ومثال الثاني : تأويل لفظ الاستواء على العرش ، بأنه أراد به النسبة الخاصة التي للعرش ونسبته أن الله تعالى يتصرف في جميع العالم ويدبر الأمر من السماء إلى الأرض بواسطة العرش فإنه لا يحدث في العالم صورة ما لم يحدثه في العرش ، كما لا يحدث النقاش والكاتب صورة وكلمة على البياض ما لم يحدثه في الدماغ ، بل لا يحدث البناء صورة الأبنية ما لم يحدث صورتها في الدماغ ، فبواسطة الدماغ يدبر القلب أمر عالمه الذي هو بدنة فربما نتردد في أنّ إثبات هذه النسبة للعرش إلى الله تعالى هل جائز ، إما لوجود في نفسه أو لأنه أجرى به سنته وعادته وإن لم يكن خلافه محالا كما أجرى عادته في حق قلب الإنسان بأن لا يمكنه التدبير إلا بواسطة الدماغ ، وإن كان في قدرة الله تعالى تمكينه منه دون الدماغ لو سبقت به إرادته الأزلية وحقت به الكلمة القديمة التي هي علمه فصار خلافه ممتنعا لا لقصور في ذات القدرة لكن لاستحالة ما يخالف الإرادة القديمة والعلم السابق الأزلي ، ولذلك قال : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٦٢ ، الفتح : ٢٣]. وإنما لا تتبدل لوجوبها وإنما وجوبها لصدورها عن إرادة أزلية واجبة ، ونتيجة الواجب واجبة ونقيضها محال وإن لم يكن محالا في