لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء : ٣٦]. فإن قيل يدل على الجواز ثلاثة أمور :
الأول : الدليل الذي دل على إباحة الصدق وهو صادق ، فإنه ليس يخبر إلا عن ظنه وهو ظان.
والثاني : أقاويل المفسرين في القرآن بالحدس والظن ، إذ كل ما قالوه غير مسموع من الرسولصلىاللهعليهوسلم ، بل هو مستنبط بالاجتهاد ولذلك كثرت الأقاويل وتعارضت.
والثالث : اجماع التابعين على نقل الأخبار المتشابهة التي نقلها آحاد الصحابة ولم تتواتر ، وما اشتمل عليه الصحيح الذي نقله العدل عن العدل فإنهم جوزوا روايته ولا يحصل بقول العدل إلا الظن.
والجواب عن الأول : أن المباح صدق لا يخشى منه ضرر ، وبث هذه الظنون لا يخلو عن ضرر فقد يسمعه من يسكن إليه ويعتقده جزما فيحكم في صفات الله تعالى بغير علم وهو خطر والنفوس نافرة عن أشكال الظواهر ، فإذا وجد مستروحا من المعنى ولو كان مظنونا سكن إليه واعتقد جزما ، وربما يكون غلطا فيكون قد اعتقد في صفات الله تعالى ما هو الباطل أو حكم عليه في كلامه بما لم يرد به.
وأما الثاني : وهو أقاويل المفسرين بالظن فلا نسلم ذلك فيما هو من صفات الله تعالى كالاستواء والفوق وغيره ، بل لعل ذلك في الأحكام الفقهية أو في حكايات أحوال الأنبياء والكفار والمواعظ والأمثال وما لا يعظم خطر الخطأ فيه.
وأما الثالث : فقد قال قائلون لا يجوز أن يعتمده في هذا الباب إلا ما ورد في القرآن أو تواتر عن الرسول صلىاللهعليهوسلم تواترا يعيد العلم. فأما أخبار الآحاد ، فلا يقبل فيه ولا نشتغل بتأويله عند من يميل إلى التأويل ، ولا بروايته عند من يقتصر على الرواية ، لأن ذلك حكم بالمظنون واعتماد عليه ، وما ذكروه ليس ببعيد لكنه مخالف لظاهر ما درج عليه السلف ، فإنهم قبلوا هذه الأخبار من العدول ورووها وصححوها فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن التابعين كانوا قد عرفوا من أدلة الشرع أنه لا يجوز اتهام العدل بالكذب لا سيما في صفات الله تعالى ، فإذا روى الصديق رضي الله عنه خبرا ، وقال سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول كذا فرد روايته تكذيب له ونسبة له إلى الوضع أو إلى السهو فقبلوه وقالوا : قال أبو بكر ، قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، قال أنس قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكذا في التابعين ، فالآن إذا ثبت عندهم بأدلة الشرع أنه لا سبيل إلى اتهام العدل التقي من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، فمن أين يجب أن لا يتهم ظنون الآحاد وأن ينزل الظن منزلة نقل العدل مع أن بعض الظن إثم. فإذا قال الشارع : ما أخبركم به العدل فصدقوه واقبلوه وانقلوه واظهروه فلا يلزم من هذا أن يقال ما حدثتكم به نفوسكم من ظنونكم فاقبلوه واظهروه وارووا عن ظنونكم وضمائركم ونفوسكم ما قالته ، فليس هذا في معنى المنصوص ، ولهذا تقول ما رواه غير العدل من هذا الجنس ينبغي أن يعرض عنه ولا يروى ويحتاط فيه أكثر مما يحتاط في المواعظ والأمثال وما يجري مجراها.
والجواب الثاني : أن تلك الأخبار روتها الصحابة لأنهم سمعوه يقينا فما نقلوا إلا تيقنوه والتابعون