النظر فليفتح مطلقا أو ليسد عليه طريق النظر رأسا وليكلف التقليد من غير دليل.
الجواب : إن الدلالة تنقسم إلى ما يحتاج فيه إلى تفكر وتدقيق خارج عن طاقة العامي وقدرته ، وإلى ما هو جلي سابق إلى الأفهام ببادي الرأي من أول النظر مما يدركه كافة الناس بسهولة ، فهذا لا خطر فيه ، وما يفتقر إلى التدقيق فليس على حد وسعه ، فأدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان ، وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس وتستضر به الأكثرون ، بل أدلة القرآن كالماء الذي ينتفع به الصبي الرضيع والرجل القوي وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مرة ويمرضون بها أخرى ولا ينتفع بها الصبيان أصلا ، ولهذا قلنا أدلة القرآن أيضا ينبغي أن يصغى إليها إصغاء إلى كلام جلي ولا يمارى في الإمراء ظاهرا ، ولا يكلف نفسه تدقيق الفكر وتحقيق النظر ، فمن الجلي أن من قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر ، كما قال : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧]. وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمدبرين ، فكيف ينتظم في كل العالم؟ وأن من خلق علم كما قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : ١٤]. فهذه الأدلة تجري للعوام مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي ، وما أخذه المتكلمون وراء ذلك من تنقير وسؤال وتوجيه إشكال ثم اشتغال بحله فهو بدعة وضرره في حق أكثر الخلق ظاهر ، فهو الذي ينبغي أن يتوقى. والدليل على تضرر الخلق به المشاهدة والعيان والتجربة وما ثار من الشر منذ نبغ المتكلمون وفشت صناعة الكلام مع سلامة العصر الأول من الصحابة عن مثل ذلك ، ويدل عليه أيضا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم والصحابة بأجمعهم ما سلكوا في المحاجة مسلك المتكلمين في تقسيماتهم وتدقيقاتهم لا لعجز منهم عن ذلك ، فلو علموا أن ذلك نافع لأطنبوا فيه ولخاضوا في تحرير الأدلة خوضا يزيد على خوضهم في مسائل الفرائض.
فإن قيل : إنما أعرضوا عنه لقلة الحاجة ، فإن البدع إنما نبغت بعدهم فعظم حاجة المتأخرين ، وعلم الكلام راجع إلى علم معالجة المرضى بالبدع ، فلما قلّت في زمانهم أمراض البدع قلّت عنايتهم بجميع طرق المعالجة ، فالجواب من وجهين.
أحدهما : أنهم في مسائل الفرائض ما اقتصروا على بيان حكم الوقائع ، بل وضعوا المسائل وفرضوا فيها ما تنقضي الدهور ولا يقع مثله لأن ذلك مما أمكن وقوعه فصفوا علمه ورتبوه قبل وقوعه إذ علموا أنه لا ضرر في الخوض فيه وفي بيان حكم الواقعة قبل وقوعها ، والعناية بإزالة البدع ونزعها عن النفوس أهم فلم يتخذوا ذلك صناعة لأنهم عرفوا أن الاستضرار بالخوض فيه أكثر من الانتفاع ، ولو لا أنهم كانوا قد حذروا من ذلك وفهموا تحريم الخوض لخاضوا فيه.
والجواب الثاني : أنهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمدصلىاللهعليهوسلم ، وإلى إثبات البعث مع منكريه ، ثم ما زادوا في هذه القواعد التي هي أمهات العقائد على أدلة القرآن ، فمن أقنعه ذلك قبلوه ومن لم يقنع قتلوه وعدلوا إلى السيف والسنان بعد إفشاء أدلة وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات وتحريم طريق المجادلة وتذليل طرقها