الروايات الشاذة الضعيفة التي لا يجوز التعويل عليها ، ثم ما تواتر منها إن صح معها إيهام التشبيه وقد أدركها الحاضرون المشاهدون ، فإذا نقل الألفاظ مجردة عن تلك القرائن ظهر الإيهام ، وأعظم القرائن في زوال الإيهام المعرفة السابقة بتقديس الله تعالى عن قبول هذه الظواهر ، ومن سبقت معرفته بذلك كانت تلك المعرفة ذخيرة له راسخة في نفسه مقارنة لكل ما يسمع ، فينمحق معه الإيهام انمحاقا لا يشك فيه ، ويعرف هذا بأمثلة :
الأول : أنه صلىاللهعليهوسلم سمى الكعبة بيت الله تعالى ، وإطلاق هذا يوهم عند الصبيان وعند من تقرب درجتهم منهم أن الكعبة وطنه ومثواه ، لكن العوام الذين اعتقدوا أنه في السماء وأن استقراره على العرش ينمحق في حقهم هذا الإيهام على وجه لا يشكون فيه ، فلو قيل لهم : ما الذي دعا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم إلى إطلاق هذا اللفظ الموهم المخيل إلى السامع أن الكعبة مسكنه لبادروا بأجمعهم ، وقالوا : هذا إنما يوهم في حق الصبيان والحمقى. وأما من تكرر على سمعه أن الله مستقر على عرشه ، فلا يشك عند سماع هذا اللفظ أنه ليس المراد به أن البيت مسكنه ومأواه ، بل يعلم على البديهة أن المراد بهذه الإضافة تشريف البيت أو معنى سواه غير ما وضع له لفظ البيت المضاف إلى ربه وساكنه. أليس كان اعتقاده أنه على العرش قرينة أفادته علما قطعيا بأنه ما أريد بكون الكعبة بيته إنه مأواه ، وإن هذا إنما يوهم في حق من لم يسبق إلى هذه العقيدة ، فكذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم خاطب بهذه الألفاظ جماعة سبقوا إلى علم التقديس ونفي التشبيه وإنه منزه عن الجسمية وعوارضها ، وكان ذلك قرينة قطعية مزيلة للإيهام لا يبقى معه شك ، وإن جاز أن يبقى لبعضهم تردد في تأويلها وتعيين المراد به من جملة ما يحتمله اللفظ ويليق بجلالة الله تعالى.
المثال الثاني : إذا جرى لفقيه في كلامه لفظ الصور بين يدي الصبي أو العامي فقال : صورة هذه المسألة كذا وصورة الواقعة كذا ، ولقد صورت للمسألة صورة في غاية الحسن ربما توهم الصبي أو العامي الذي لا يفهم معنى المسألة أن المسألة شيء له صورة ، وفي تلك الصورة أنف وفم وعين على ما عرفه واشتهر عنده ، أما من عرف حقيقة المسألة وإنها عبارة عن علوم مرتبة ترتيبا مخصوصا ، فهل يتصور أن يفهم عينا وأنفا وفما كصورة الأجسام؟ هيهات. بل يكفيه معرفته بأن المسألة منزهة عن الجسمية وعوارضها ، فكذلك معرفة نفي الجسمية عن الإله وتقدسه عنها تكون قرينه في قلب كل مستمع مفهمة لمعنى الصورة في قوله خلق الله آدم على صورته ويتعجب العارف بتقديسه عن الجسمية ممن يتوهم لله تعالى الصوره الجسمية ، كما يتعجب ممن يتوهم للمسألة صورة جسمانية.
المثال الثالث : إذا قال القائل بين يدي الصبي : بغداد في يد الخليفة ربما يتوهم أن بغداد بين أصابعه ، وأنه قد احتوى عليها براحته كما يحتوي على حجره ومدره ، وكذلك كل عامي لم يفهم المراد بلفظ بغداد. أما من علم أن بغداد عبارة عن بلدة كبيرة هل يتصور أن يخطر له ذلك أو يتوهم وهل يتصور أن يعترض على قائله ويقول : لما ذا قلت بغداد في يد الخليفة؟