وهذا يوهم خلاف الحق ويفضي إلى الجهل حتى يعتقد أن بغداد بين أصابعه بل يقال له : يا سليم القلب هذا إنما يوهم الجهل عند من لا يعرف حقيقة بغداد ، فأما من علمه فبالضرورة يعلم أنه ما أريد بهذه اليد العضو المشتمل على الكف والأصابع بل معنى آخر ولا يحتاج في فهمه إلى قرينة سوى هذه المعرفة ، فكذلك جميع الألفاظ الموهمة في الأخبار يكفي في دفع إيهامها قرينة واحدة وهي معرفة الله ، وإنه ليس من جنس الأجسام ، وهذا مما افتتح رسول الله صلىاللهعليهوسلم بنيانه في أول بعثته قبل النطق بهذه الألفاظ.
المثال الرابع : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في نسائه : " أطولكنّ يدا أسرعكنّ لحاقا بي" فكان بعض نسوته يتعرّف الطول بالمساحة ووضع اليد على اليد ، حتى ذكر لهن أنه أراد بذلك السماحة في الجود دون الطول للعضو ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذكر هذه اللفظة مع قرينة أفهم بها إرادة الجود بالتعبير بطول اليد عنه ، فلما نقل اللفظ مجردا عن قرينته حصل الإيهام ، فهل كان لأحد أن يعترض على رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في إطلاقه لفظا جهل بعضهم معناه؟ إنما ذلك لأنه أطلق إطلاقا مفهما في حق الحاضرين مقرونا مثلا بذكر السخاوة ، والناقل قد ينقل اللفظ كما سمعه ولا ينقل القرينة ، أو كان بحيث لا يمكن نقلها ، أو ظن أنه لا حاجة إلى نقلها ، وأن من يسمع يفهمه هو كما فهمه هو لما سمعه ، فربما لا يشعر أن فهمه إنما كان بسبب القرينة ، فلذلك يقتصر على نقل اللفظ ، فبمثل هذه الأسباب بقيت الألفاظ مجردة عن قرائنها فقصرت عن التفهيم مع أن قرينة معرفة التقديس بمجردها كافية في نفي الإيهام ، وإن كانت ربما لا تكفي في تعيين المراد به فهذه الدقائق لا بدّ من التنبه لها كالمثال الخامس.
إذا قال القائل بين يدي الصبي ومن يقرب منه درجة ممن لم يمارس الأحوال ، ولا عرف العادات في المجالسات فلان دخل مجمعا وجلس فوق فلان ربما يتوهم السامع الجاهل الغبي أنه جلس على رأسه أو على مكان فوق رأسه ، ومن عرف العادات وعلم أن ما هو أقرب إلى الصدر في الرتبة ، وأن الفوق عبارة عن العلو يفهم منه أنه جلس بجنبه لا فوق رأسه ، لكن جلس أقرب إلى الصدر ، فالاعتراض على من خاطب بهذا الكلام وأهل المعرفة بالعادات من حيث إنه يجهله الصبيان أو الأغبياء اعتراض باطل لا أصل له ، وأمثلة ذلك كثيرة. فقد فهمت على القطع بهذه الأمثلة أن هذه الألفاظ الصريحة انقلبت مفهوماتها عن أوضاعها الصريحة بمجرد قرينة ، ورجعت تلك القرائن إلى معارف سابقة ومقترنة ، فكذلك هذه الظواهر الموهمة انقلبت عن الإيهام بسبب تلك القرائن الكثيرة التي بعضها هي المعارف ، والواحدة منها معرفتهم أنهم لم يؤمروا بعبادة الأصنام ، وإن من عبد جسما فقد عبد صنما كان الجسم صغيرا أو كبيرا ، قبيحا أو جميلا ، سافلا أو عاليا على الأرض أو على العرش. وكان نفي الجسمية ونفي لوازمها معلوما لكافتهم على القطع بإعلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم المبالغة في التنزيه بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١]. وسورة الإخلاص وقوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [البقرة : ٢٢]. وبألفاظ كثيرة لا حصر لها مع قرائن قاطعة