الفيل فإنه ذو فهم مخصوص به وهو قابل للتأنس والتعلم فيستعان به في الحمل والحروب ، ومنها ما له غضب وشر إلا أنه متأنس بالإنسان لمنفعته كالهرة ، ومن الطير ما للناس به انتفاع لما فيه من الإلفة والتأنس ، فمن ذلك الحمام يألف موضعه فشغل بسببه في الإخبار بسرعة إذا دعت الحاجة إلى ذلك ، وجعله الله سبحانه وتعالى كثير النسل فيكون منه طعام ينتفع به ، ومن ذلك البازي ، فإن طباعه تنتقل إلى التأنس ، وإن كان في طبعه مباينا إلا أنه لما علم الله أنه ينتفع بصيده جعل فيه القبول للتنظيم حتى خرج عن عادته وبقي يعمل ما يوافق أصحابه وقت الصيد. وما خفي من الحكم في خلق الله تعالى أكثر مما علم.
باب في حكمة خلق النحل والنمل
والعنكبوت ودود القز والذباب وغير ذلك
قال الله سبحانه وتعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام : ٣٨].
انظر إلى النمل وما ألهمت له في احتشادها في جمع قوتها وتعاونهم على ذلك وإعداده لوقت عجزها عن الخروج والتصرف بسبب حر أو برد ، وألهمت في تقلب ذلك من الحزم ما لم يكن عند من يعرف العواقب حتى تراها في ذلك إذا عجز بعضها عن حمل ما حمله أو جهد به أعانه آخر فيه ، فصارت متعاونة على النقل كما يتعاون الناس على العمل الذي لا يتم إلا بالتعاون ، ثم إنها ألهمت حفر بيوت في الأرض تبتدئ في ذلك بإخراج ترابها وتقصد إلى الحب الذي منه قوتها فتقسمه خشية أن ينبت بنداوة الأرض فمن خلق هذا في جبلتها إلا الرحمن الرحيم ، ثم إذا أصاب الحب بلل أخرجته فنشرته حتى يجف ، ثم إنها لا تتخذ البيوت إلا فيما علا من الأرض خوفا من السيل أن يغرقها.
ثم انظر إلى النحل وما ألهمت إليه من العجائب والحكم ، فإن الباري سبحانه جعل لها رئيسا تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتها ، فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه قتل أحدهما الآخر. وذلك لمصلحة ظاهرة وهو خوف الافتراق ، لأنهما إذا كانا أميرين وسلك كل واحد منهما فجا افترق النحل خلفهما ، ثم إنها ألهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار فيستحيل في أجوافها عسلا ، فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد من شراب فبه شفاء للناس كما أخبر سبحانه وتعالى ، وفيه غذاء وملاذ للعباد ، وفيه من أقوات فضلات عظيمة جعلت لمنافع بني آدم. فهي مثل ما يفضل من اللبن الذي خلق لمصالح أولاد البهائم وأقواتها وما فضل من ذلك ، ففيه من البركة والكثرة ما ينتفع به الناس ، ثم انظر ما تحمله النحل من الشمع في أرجلها لتوعي فيه العسل وتحفظه ، فلا تكاد تجد وعاء أحفظ للعسل من الشمع في الأجناح. فانظر في هذه الذبابة : هل في عملها وقدرتها جمع الشمع مع العسل أو عندها من المعرفة بحيث رتبت حفظ العسل مدة طويلة باستقراره في الشمع وصيانته في الجبال والشجر في المواضع التي تحفظه ولا يفسد فيها ، ثم انظر لخروجها نهارا لرعيها ورجوعها عشية إلى أماكنها ، وقد حملت ما يقوم