هذه ما ينكشف الغطاء عن وجه هذه المسألة.
فقيل له : إن كانت الأرواح حادثة مع الأجساد فما معنى قوله عليهالسلام : " خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام" ، وقوله عليهالسلام : " أنا أوّل الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا" ، وقوله : " كنت نبيّا وآدم بين الماء والطّين"؟
فقال : ليس في هذا ما يدل على قدم الروح ، بل يدل على حدوثه ، وكونه مخلوقا. نعم ربما دل بظاهره على تقدم وجوده على الجسد وأمر الظواهر هيّن ، فإن تأويلها ممكن والبرهان القاطع لا يدرء بالظواهر بل يسلط على تأويل الظواهر ، كما في ظواهر التشبيه في حق الله تعالى.
أما قوله عليهالسلام : " خلق الله الأرواح قبل الأجساد" ، فلعله أراد بالأرواح الملائكة ، وبالأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والكواكب والهواء والأرض والماء ، وكما أن أجساد الآدمين بجملتهم صغيرة بالإضافة إلى جرم الأرض وجرم الأرض أصغر من جرم الشمس بكثير ، ثم لا نسبة لجرم الشمس إلى فلكها ولا لفلكها إلى السماوات التي فوقه ، ثم كل ذلك اتسع له الكرسي إذ وسع كرسيّه السماوات والأرض ، والكرسي صغير بالإضافة إلى العرش ، فإذا تفكرت في جميع ذلك استحقرت أجساد الآدميين ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد ، فكذلك فاعلم وتحقق أن أرواح البشر بالإضافة إلى أرواح الملائكة كأجسادهم بالإضافة إلى أجساد العالم ، ولو انفتح لك باب معرفة الأرواح لرأيت الأرواح البشرية بالإضافة إلى أرواح الملائكة كسراج اقتبست من نار عظيم طبق العالم ، وتلك النار العظيمة هي أرواح الملائكة ، ولأرواح الملائكة ترتيب وكل واحد منفرد برتبته ، ولا يجتمع في مرتبة واحدة اثنان بخلاف الأرواح البشرية المتكثرة مع اتحاد النوع والرتبة. أما الملائكة ، فكل واحد نوع برأسه هو كل ذلك النوع وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) [الصافات : ١٦٤ و ١٦٥].
ويقوله عليهالسلام : الراكع منهم لا يسجد والقائم لا يركع ، وإنه ما من واحد منهم إلا له مقام معلوم ، فلا يفهم إذا من الأرواح والأجساد المطلقة إلا أرواح الملائكة وأجساد العالم.
وأما قوله عليهالسلام : " أنا أوّل الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا" ، فالخلق هنا هو التقدير دون الإيجاد ، فإنه قبل أن ولدته أمه لم يكن موجودا مخلوقا ، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود ، وهو معنى قولهم : أول الفكر آخر العمل. بيانه أن المهندس المقدر للدار أول ما يمثل في نفسه صورة الدار ، فيحصل في تقديره دار كاملة ، وآخر ما يوجد من أثر أعماله هي الدار الكاملة وهي أول الأشياء في حقّه تقديرا وآخرها وجودا ، لأن ما قبلها من ضرب اللبن وبناء الحيطان وتركيب الجذوع وسيلة إلى غاية وكمال وهي الدار ، ولأجلها تقدمت الآلات والأعمال ، فإذا عرفت هذا فاعلم أن المقصود فطرة الآدميين إدراكهم بسعادة القرب من الحضر الإلهية ، ولم يكن ذلك إلا بتعريف الأنبياء وكانت النبوة مقصودة بالإيجاد ، والمقصود كمالها وغايتها لا أولها ، وإنما تكمل بحسب سنة الله تعالى بالتدريج كما تكمل