فتأمل أيها الراغب في العلم هذه الخصال ، واعلم أن أعظم الأسباب في رسوخ هذه الخبائث في القلب طلب العلم لأجل المباهاة والمنافسة ، فالعامي بمعزل عن أكثر هذه الخصال ، والمتفقه مستهدف لها ، وهو متعرض للهلاك بسببها. فانظر أي أمورك أهم ، أتتعلم كيفية الحذر من هذه المهلكات وتشتغل بإصلاح قلبك وعمارة آخرتك ، أم الأهم أن تخوض مع الخائضين فتطلب من العلم ما هو سبب زيادة الكبر والرياء والحسد والعجب حتى تهلك مع الهالكين؟
واعلم أن هذه الخصال الثلاث من أمهات خبائث القلوب ، ولها مغرس واحد وهو حب الدنيا ، ولذلك قال صلىاللهعليهوسلم : «حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة» ، ومع هذا فالدنيا مزرعة للآخرة ، فمن أخذ من الدنيا بقدر الضرورة ليستعين بها على الآخرة فالدنيا مزرعته ، ومن أراد الدنيا ليتنعم بها فالدنيا مهلكته.
فهذه نبذة يسيرة من ظاهر علم التقوى ، وهي بداية الهداية ، فإن جربت بها نفسك وطاوعتك عليها فعليك بكتاب إحياء علوم الدين لتعرف كيفية الوصول إلى باطن التقوى. فإذا عمرت بالتقوى باطن قلبك ، فعند ذلك ترتفع الحجب بينك وبين ربك ، وتنكشف لك أنوار المعارف ، وتتفجر من قلبك ينابيع الحكم ، وتتضح لك أسرار الملك والملكوت ، ويتيسر لك من العلوم ما تستحقر به هذه العلوم المحدثة التي لم يكن لها ذكر في زمن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين.
وإن كنت تطلب العلم من القيل والقال والمراء والجدال ، فما أعظم مصيبتك ، وما أطول تعبك ، وما أعظم حرمانك وخسرانك. فاعمل ما شئت ، فإن الدنيا التي تطلبها بالدين لا تسلم لك ، والآخرة تسلب منك ؛ فمن طلب الدنيا بالدين خسرهما جميعا ، ومن ترك الدنيا للدين ربحهما جميعا.
فهذه جمل الهداية إلى بداية الطريق في معاملتك مع الله تعالى بأداء أوامره واجتناب نواهيه. وأشير عليك الآن بجمل من الآداب لتؤاخذ نفسك بها في مخالطتك مع عباد الله تعالى وصحبتك معهم في الدنيا.
القسم الثالث القول في آداب الصحبة
اعلم أن صاحبك الذي لا يفارقك في حضرك وسفرك ونومك ويقظتك ، بل في حياتك وموتك ، هو ربك وسيدك ومولاك وخالقك ؛ ومهما ذكرته فهو جليسك ، إذ قال الله تعالى : «أنا جليس من ذكرني» ، ومهما انكسر قلبك حزنا على تقصيرك في حق دينك فهو صاحبك وملازمك ، إذ قال الله تعالى : «أنا عبد المنكسرة قلوبهم من أجلي» ، فلو عرفته حق معرفته لاتخذته صاحبا وتركت الناس جانبا ، فإن لم تقدر على ذلك في جميع أوقاتك فإياك أن تخلي ليلك ونهارك عن وقت تخلو فيه لمولاك وتتلذذ معه بمناجاتك له ، وعند ذلك فعليك أن تتعلم آداب الصحبة مع الله تعالى ؛ وآدابها : إطراق الرأس ، وغض الطرف ، وجمع الهم ، ودوام الصمت ، وسكون الجوارح ، ومبادرة الأمر ، واجتناب النهي ، وقلة الاعتراض على القدر ، ودوام الذكر ، وملازمة الفكر ، وإيثار الحق على الباطل ، والإياس عن الخلق ، والخضوع تحت الهيبة ، والانكسار تحت الحياء ، والسكون عن حيل الكسب ثقة بالضمان ، والتوكل على فضل الله تعالى معرفة بحسن الاختيار. وهذا كله ينبغي أن يكون شعارك في جميع ليلك ونهارك ، فإنها