(آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥] وهذه الطريقة لا تفهم إلا بالتجربة ، وإن لم تحصل بالذوق لم تحصل بالتعليم ؛ والواجب التصديق بها حتى لا تحرم شعاع سعادتهم ، وهو من عجائب القلب. ومن لم يبصر لم يصدق كما قال سبحانه وتعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) [يونس : ٣٩] وقوله : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) [الأحقاف : ١١].
فصل
ولا تحسب أن هذا خاص بالأنبياء والأولياء ؛ لأن جوهر ابن آدم في أصل الخلقة موضوع لهذا كالحديد لأن يعمل منه مرآة ينظر فيها صورة العالم ، إلا الذي صدأ فيحتاج إلى إجلاء ، أو جدب فيحتاج إلى صقل أو سبك ، لأنه قد تلف ، وكذلك كل قلب إذا غلب عليه الشهوات والمعاصي لم يبلغ هذه الدرجة ، وإن لم تغلب عليه تلك الدرجة كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم : " كلّ مولود يولد على فطرة الإسلام" وقال الله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] وكذلك بنو آدم في فطرتهم التصديق بالربوبية كما قال سبحانه وتعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠] والأنبياء والأولياء هم بنو آدم ، قال سبحانه وتعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [فصلت : ٦] فكل من زرع حصد ، ومن مشى وصل ، ومن طلب وجد. والطلب لا يحصل إلا بالمجاهدة ـ طلب شيخ بالغ عارف قد مشى في هذا الطريق ـ وإذا حصل هذان الشيئان لأحد فقد أراد الله له التوفيق والسعادة بحكم أزلي حتى يبلغ إلى هذه الدرجة.
فصل
في أن اللذة والسعادة لابن آدم في معرفة الله سبحانه وتعالى
اعلم أن سعادة كل شيء ولذته وراحته ولذة كل شيء تكون بمقتضى طبعه ، وطبع كل شيء ما خلق له ؛ فلذة العين في الصور الحسنة ، ولذة الأذن في الأصوات الطيبة ، وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة ؛ ولذة القلب الخاصة بمعرفة الله سبحانه وتعالى ، لأنه مخلوق لها ، وكل ما لم يعرفه ابن آدم إذا عرفه فرح به ، مثل الشطرنج إذا عرفها فرح بها ، ولو نهي عنها لم يتركها ولا يبقى له عنها صبر. وكذلك إذا وقع في معرفة الله سبحانه وتعالى فرح بها ، ولم يصبر عن المشاهدة ، لأن لذة القلب المعرفة وكلما كانت المعرفة أكبر كانت اللذة أكبر ؛ ولذلك فإن الإنسان إذا عرف الوزير فرح ، ولو علم الملك لكان أعظم فرحا.
وليس موجود أشرف من الله سبحانه وتعالى ، لأن شرف كل موجود به ومنه ، وكل عجائب العالم آثار صنعته ، فلا معرفة أعز من معرفته ، ولا لذة أعظم من لذة معرفته ، وليس منظر أحسن من منظر حضرته. وكل لذات شهوات الدنيا متعلقة بالنفس وهي تبطل بالموت ، ولذة معرفة الربوبية متعلقة بالقلب فلا تبطل بالموت ؛ لأن القلب لا يهلك بالموت بل تكون لذته