محفوظة عن السقوط بالهواء والانكسار بالنقل أو بغيره ويصعد الماء في جذورها إلى أعالي الشجرة فيقسمه الله سبحانه بالقسط وميزان الحق ، فينصرف للورق غذاء صالح له وللعروق المشتبكة في الأوراق لاتصال الغذاء إلى جوانب الورق ما يليق بغذائها ، وللثمار غذاء صالح لها ، وللأقماع واللحا والأزهار غذاء صالح لكل من ذلك ما يليق به ويصلحه ، فهو كذلك حتى يكمل في الثمار نموها وطعمها ورائحتها وألوانها المختلفة وحلاوتها وطيبها ، ثم انظر كيف جعل الله سبحانه خروج الأوراق سابقا لخروج الثمار لأن الثمرة ضعيفة عند خروجها تتضرر بحر الشمس وبرد الهواء ، فكانت الأوراق ساترة لها ، وصار ما بينها من الفرج لدخول أجزاء من الشمس والهواء لا غنى للثمرة عنها فيحفظها ذلك من المن والعفن وغير ذلك من الفساد.
ثم انظر كيف رتب البارئ سبحانه الأشجار والثمار والأزهار ، وجعلها مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح. فأشكالها ما بين طويل وقصير وجليل وحقير. وألوانها ما بين أحمر وأبيض وأصفر وأخضر ، ثم كل لون منها مختلف إلى شديد وصاف ومتوسط ، وطعومها ما بين حلو وحامض ومز وتفه ومر ، وروائحها إلى عطرات لذيذات مختلفات ، وقد أوضح الكتاب العزيز من ذلك ما ذكرناه بما يشرح الصدور ويكشف للمتأمل منه كل مستور. فانظر ما أودع البارئ سبحانه فيها من السر عند النظر إليها ، فإنها تجلي عن القلوب درنها عند مشاهدتها وتنشرح الصدور برؤيتها وتنتعش النفوس لرونق بهجتها ، وأودع الله سبحانه فيها منافع لا تحصى مختلفة التأثير. فمنها ما تقوى به القلوب ، ومنها أغذية تحفظ الحياة ، وجعلها مطعومة لذيذة عند تناولها ، وخلق فيها بزورا لحفظ نوعها تزرع عند جفافها وانفصال وقت نضارتها. انظر وتأمل ما في قوله عزوجل : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) [المؤمنون : ٢٠]. فأخرج سبحانه فيما بين الحجر والماء زيتا صافيا لذيذا نافعا كما أخرج اللبن من بين فرث ودم ، ومن أخرج من النخل شرابا عسلا مختلفا ألوانه فيه شفاء للناس ، ولو جمعت هذه الأشياء في مستقر لكانت مثل الأنهار وكل ذلك لمنافع العباد. فانظر ما فيه من العبرة لذوي الأفكار ، ثم انظر إلى الماء الصاعد من العروق الراسخة الحافظة للأعلى من الشجرة ، وكيف قسم البارئ في غذاء النخلة ، فقسم للجذر ما يصلح لها وللجريد ، وما فيه من السل ما يصلح لها ويناسب جريدها ويرسل للثمرة ما يليق بها ، وكذلك الليف الحافظ للأصول مع الثمرة وجعل الثمرة لما كانت ضعيفة في أول أمرها متراصة متراكمة بعضها فوق بعض مجموعة في غلاف متقن يحفظها مما يفسدها ويغيرها حتى إذا قويت صلحت أن تبرز للشمس والهواء ، فشق عنها غلافها على التدريج ، وهو الذي كان حافظا لها ، فيصير يفترق شيئا بعد شيء على قدر ما تحتمله الثمرة من الهواء والشمس حتى تكمل قوتها ، فتظهر جميعها حتى ما يضر بها ما يلقاها من حر وبرد ، ثم تراها في النضج والطيب إلى بلوغ الغاية المقصودة منها فيلتذ حينئذ بأكلها ويمكن الانتفاع بادخارها ، وتصرف في المآرب التي هيئت لها ، واعتبر ذلك في جميع