فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢] فإذا أوصلت إلى النفوس برّا وصدقة وخيرا وعدلا وإشفاقا ، سرى ذلك إلى جميع النفوس بعد القبض فصار خيرا ، فإذا وصل بهم كان ذلك خيرا للجميع ، ألا ترى قول الرجل لامرأته : بعضك طالق ، كيف يسري الطلاق في الكل؟ إذ الطلاق لا يتبعض.
وليكن لك أيها الملك إمام يؤمّ بك ، وليكن عالما دينا يعرف بذلك ، وليكن شيخا أو أعمى. وعلم مماليكك خطّا ورموزا ، فإن اتفق أن يكون المعلم خادما أو شيخا فأولى. وللنساء امرأة دينة. واعلم أيها الملك أن أهل الزمان فاسدون لتشاغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، وهو أعظم المقت والسخط ، ومنه حصلت الإباحة لبعض الطوائف حتى بسطوا فيه وأقاموا لهم فيه شبها نقلية وعقلية : أما النقلية فقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] قالوا : هكذا كان الناس على المنهج القديم ليس تحليل ولا تحريم ، ولكن الأنبياء حللوا أشياء وحرموا أشياء. وقال تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٧] وقد تعلقوا بإباحة أبي بكر رضي الله عنه أموال بني حنيفة ، وزعموا أن الخطاب من الرسل إما أن يكون لموجود أو لمعدوم ، فالمعدوم لا يخاطب ، والموجود المخاطب في زمانهم فقد درج معهم. فمن هذه الشبهة تمسك أرباب الإباحة مثل النصيرية وغيرهم ، وسنذكر تعلقاتهم في أماكنها. وقد عرفتك أيها الطالب طريقك النفيسة مثل لبس النظيف والطيب وقلة الكلام بطريق الاختصار.
وأدب أصحابك أن لا يشكو منهم قريب ولا بعيد مثل قول الحكماء : ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموك : ولدك وزوجتك والمملوك. وإياك وقرب الملوك ، فإن قربوك فتنوك ، وإن بعدوك أحزنوك.
وهذه وصايا الملوك ، فإن هممت بتحصيله فربما أعانتك السعادة ، وإن أراد الله أمرا هيأ أسبابه وحرك القضاء بتحريكه ، وقد كان الله قادرا على تحصيل الرطب لمريم من غير هز كما قال في النظم البديع:
ألم تر أنّ الله قال لمريم |
|
وهزّي إليك الجذع يساقط الرّطب |
ولو شاء أحنى الجذع من غير هزّها |
|
ولكنّما الأشياء تجري لها سبب |
فإن وقع لك صناعة الحجرين الأحمر والأبيض فحصله ، ولكن ذاك عنك بعيد ، وبالهمة يفتح عليك بعض هذه الطريق ، أما سمعت في رموز أمير المؤمنين رضي الله عنه أن في الزئبق الرجراج مع الشب المصعد لمالا هنيا؟ فذوو الهمم القصيرة يقصرونك عن نيل مقاصدك ، وإلا فمن طلب وجد ومن جدّ وجد ، ولهذه مثل ، وهو أن بعض المتصوفة سمع هذا الحديث فقال : سأجرب نفسي في طلب المملكة ، وكان فيه آلة من علم وأدب ، وكان محلّا قابلا للملك ، فتقرب إلى الفراشين فخدم معهم ففشا أمره في السيرة الحميدة ، ثم مات مهتارهم فصار مكانه ، ثم عبث في الديوان حتى انتقل إلى مكان زمامهم ، فلما انتشر شكره وذاع خبره وذكره قبض الوزير ورتب مكانه ، فساس الرعية وأظهر العدل واستراح الناس من ثقل ما كانوا