جيرانهم ، وآخرون قد صلبوا على جذوع النيران ، وآخرون قد خرجت ألسنتهم على صدورهم أقبح ما يكون ، وهم الزناة واللاطة والكاذبون ، وآخرون قد عظمت بطونهم كالجبال الرواسي ، وهم آكلوا الربا. وكل ذنب قد بدا سوء ذنبه ظاهرا عليه.
فصل
فينادي الجليل جل جلاله يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، واشفع تشفع ، فيقولصلىاللهعليهوسلم : يا رب افصل بين عبادك! فقد طال مقامهم ، وقد أفصح كل واحد بذنبه في عرصات يوم القيامة. فيأتي النداء نعم يا محمد ، ويأمر الله بالجنة فتزخرف ويؤتى بها ولها نسيم طيب أعبق ما يكون وأزكى ، فيوجد ريحها مسيرة خمسمائة عام ، فتبرد القلوب ، وتحيا النفوس ، إلا من كانت أعمالهم خبيثة فإنهم منعوا من ريحها ، فتوضع عن يمين العرش. ثم يأمر الله تعالى أن يؤتى بالنار ، فترعب وتفزع ، وتقول للمرسلين إليها من الملائكة : أتعلمون أن الله خلق خلقا يعذبني به؟ فيقولون : لا وعزته! وإنما أرسل إليك لتنتقمي من عصاة ربك ، ولمثل هذا اليوم خلقت ، فيأتون بها تمشي على أربع قوائم ، تقاد بسبعين ألف زمام ، في كل زمام سبعون ألف حلقة لو جمع حديد الدنيا كله ما عدل منها حلقة واحدة ، على كل حلقة سبعون ألف زباني لو أمر زباني منهم أن يدك الجبال لدكها وأن يهد الأرض لهدها ، وإذا لها شهيق ودوي وشرر ودخان ، تفور حتى تسد الأفق ظلمة ، فإذا كان بينها وبين الخلق مقدار ألف عام انفلتت من أيدي الزبانية حتى تأتي إلى أهل الموقف ولها صلصلة وتصفيق وسحيق فيقال : ما هذا؟ فيقال: جهنم انفلتت من أيدي سائقيها ولم يقدروا على إمساكها لعظم شأنها ، فيجثو الكل على الركب ، حتى المتوسلون ، ويتعلق إبراهيم وموسى وعيسى بالعرش ، هذا قد نسي الذبيح ، وهذا قد نسي هارون ، وهذا قد نسي مريم ، ويجعل كل واحد منهم يقول : يا رب نفسي لا أسألك اليوم غيرها. وهو الأصح عندي. ومحمد عليه الصلاة والسلام يقول : أمتي أمتي سلمها ونجها يا رب! وليس في الموقف من تحمله ركبتاه وهو قوله تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) [الجاثية : ٢٨]. وعند تفلتها تكبو من الحنق والغيظ وهو قوله تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) [الفرقان : ١٢] أي تعظيما وحنقا ، يقول سبحانه وتعالى تكاد تميز أي تكاد تنشق نصفين من شدة غيظها فيبرز صلىاللهعليهوسلم ويأخذ بخطامها ويقول لها ارجعي مدحورة إلى خلفك حتى تأتيك أفواجك! فتقول : خل سبيلي فإنك يا محمد علي حرام ، فينادي مناد من سرادقات العرش : اسمعي منه وأطيعي له! ثم تجذب وتجعل عن شمال العرش ، ويتحدث أهل الموقف بجذبها ، فيخف وجلهم وهو قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧]. فهناك ينصب الميزان ، وهو كفتان : كفة من نور عن يمين العرش ، وكفة عن يساره من ظلمة ، ثم يكشف الجليل عن ساقه فيسجد الناس تعظيما له وتواضعا ، إلا الكفار فإن أصلابهم تعود حديدا فلا يقدرون على السجود وهو قوله تعالى (يَوْمَ