وآخر دائرة الحجر تقطع خمسة أشبار أو أكثر في الاستدارة ، فكذا الطواحين وكذلك الدوائر والسواقي ، فإن الدائرة العظمى المحركة للأحجار التي تدور بحركة الماء تقطع ما مسافته في الاستدارة عشرون ذراعا أو أكثر ، ورأس المغزل يقطع على استدارة دور الدينار والمدة واحدة ، وكذلك برهن أصحاب النظر في علم الأثقال والمقادير أن الحركة الكلية هي سبب حركة الأفلاك وأنها واحدة ، وكذلك نشاهد الثانية (هي الساقية) يدور الحمار فيها إلى جهة ويختلف دوران تلك الدوائر ، فالحمار يقطع على استدارة والقوس الأعظم الذي يكون عليه الطونس يقطع على استدارة في جهة أخرى ، ودوائر أخر تقطع في جهة أخرى.
قالوا : ولما كانت الشمس حارة نارية الجوهر جعلت الحكمة الإلهية والتقدير الرباني لها نظيرا على مضادة طبعها إذ لو دام الحر المفرط لأحرق فسخن الله تعالى القمر يمر ببرده فيبرد ما استحر فيكون النامي معتدلا بينهما ، ثم جعلت حركته سريعة لأن حركته لو ساوت حركة الشمس لما وصل نفعه إلى الناميات إلا بعد فسادها ، وكذلك أيضا لم يصل حر الشمس إلا بعد فسادها انفعل عنه وكانت حركته سريعة. قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) [يونس : ٥]. وهذا أيضا غرض آخر يخص النفوس الحية ، فإن الشمس هي النور الذي به تخرج الحيوان من القوة إلى الفعل ولها في النفوس البشرية تأثير بديع ، فبالنور قوام الكل وجعل القمر مرآة يقبل ضياءها بالليل ويعيده على الخلق حتى لا يفقدونه ليلهم ولا نهارهم. وربما توهم المتوهم أن الأفق قد يخلو من نور الشمس وهذا توهم فاسد ، والأفق معمور بأنوار الشمس والسماوات والأرض لا تغيب عنها طرفة عين ، وإنما ينكر الناس ذلك بالإضافة إلى حالهم في كون الشمس في مقابلتهم على وجه أفقهم إذ يكون النور في عنفوانه كثيرا ، فلا يزال القرص يبعد عن أرضهم وتقل الأنوار ، فحال النور عند العصر بخلاف حاله عند الظهر ، وحاله عند المغرب بخلاف حاله عند العصر ، وحاله عند مغيب الشفق بخلاف حاله عند المغرب ، وحاله نصف الليل بخلاف حاله عند مغيب الشفق. وهو أبعد ما يكون النور من ذلك الأفق ، ولذلك تكون الظلمة وتضعف رؤيته للإنسان في ذلك الوقت ، ولكن مع ذلك إذا لم يكن بينه وبين السماء حائل من سقف أو سحاب يبصر ، فإن النور لا ينعدم وهو مع ضعفه ينتفع به ، فإن نور الكواكب مع الشمس وهي واقعة على الأرض ، فإذا قربت الشمس من جهة المشرق زاد النور من جهة المشرق فلا تزال كذلك حتى تشتد فيكون فجرا أولا ، فإذا كثر كان فجرا ثانيا ، فإذا تزايد كان إسفارا ، فإذا طلع القرص كان نهارا.
وأما في الليالي المقمرة فيكبر جرم القمر ولقربه من الأرض يتسع النور فيه وينعكس أو بعده منها ، وإذا كان منها على أربع عشرة منزلة كان ضوءه. قالوا : وفي خاصية القمر جذب الرطوبات والشمس تحلل وهذه الكواكب إنما تؤثر في العناصر الدائرة بالأرض لأنها تناسبها في اللطافة وتقرب من المنفعلات من وجهة أخرى ، فهي واسطة بين الحيوانات والنباتات