والمعادن تناسب الكواكب بالبساطة والمنفعلات بالكثافة ، وقد قالوا : إن المنفعلات تنفعل من هذه العناصر وإن الحيوانات والمعادن هي أنفس الهواء والماء والنار والأرض ، لكنهم قالوا ذلك إنما يكون على طريق الدور ، فإذا تكونت ثم فسدت عادت عناصر فهي يستحيل بعضها إلى بعض ، ولذلك قالوا سمي عالم الكون والفساد. ولا يبعد أن تكون شعاعات الكواكب هي المؤثرة ، وهذه العناصر واسعة بين المؤثرات وبينها ، والله تعالى أعلم. فإنها أبعد عن قبول الفساد ، وآية ذلك أن شعاعات الكواكب هي من الشمس ومن أنفسها أيضا فلو كانت تنقص أو تزيد لقبلت الكون والفساد ولظهر ذلك عليها.
وقد زعم القدماء أن النار المحدقة بالأرض إنما هي من الأدخنة والقتارات الصاعدة والأهوية المحرقة والهواء من البخارات المتحللة من الأرض والماء على حسب ما تكلموا على ذلك في استقصاءات ، وأيضا فلا يتجه أن تتحرك هذه العناصر دون مباشرة وذلك عند هبوب الرياح وتموج الهواء والله أعلم.
وقد ذكر القدماء أن الأمطار والثلوج والرياح إنما تكون حسب ما تكون النيرات في مواضع مخصوصة من بروج مخصوصة ، فلتكن أشعتها التابعة لحركتها هي الممتزجة لهذه العناصر المحركة لها ، ثم لنفوس النيرات محركات حسب ما تتحرك وتترقى في الحركة إلى الحركة الكلية كما سبق. وقد زعم الأوائل أن تلك الحركة عن شوق واختيار عقلي مستند إلى مشيئة البارئ تعالى وإرادته فهو البارئ المبدع الخالق المصور لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ، فهو مرتب الكل أحسن ترتيب ومقدره أكمل تقدير ، والكل متصرفون جارون على منهاج ذلك الترتيب المحكم والتقدير المتقن لا يزيد ذرة ولا ينقص ذرة ، كذلك ينقرض الأولون ويتبعهم الآخرون والسماء كما هي ونجومها ، والأرض بما فيها من الحيوانات والنباتات وغير ذلك لم تطرأ عليها شيء ينكرونه ، ولا تزال كذلك حتى يعيده بارئه تعالى تارة أخرى كما بدأ حيث قال تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف : ٢٩]. فالعالم بأسره كالشخص الإنسي البشري ذو عمر ومبدأ وآخر ، وقد تقدم مرارا أن الله سبحانه خلق الإنسان على صورة العالم ، فأوله بشر ضعيف على تدريج كما سبق في المعراج الأول.
فأول ما يخلق الله تعالى مادة يتكون منها ، ثم يخلق فيه الروح الحيواني ولا يزال تدريج فيه قليلا قليلا وكذلك النفس الناطقة فيه تظهر قواها شيئا فشيئا ، فأضعفها حالة الرضيع لا يزال ينمو إلى أن يشب فتخلق له الأوهام والظنون فتكون عنده كالقوة العقلية ، فإذا كبر قليلا خلقت فيه القوة الهيولانية وهو العقل الغريزي وهي المبادي الأول ، وهذا في العادة من الخمسة عشر إلى الثمانية عشر عاما ، ثم لا تزال كذلك حتى يخلق فيه العقل النظري وهو أن يدرك الأمور الجائزة والمستحيلة فهي كعيون تفتح في قلبه ، ومثاله الإنسان في بيت مظلم فإذا قابله السراج على بعد