نظر نظرا ضعيفا فلا يزال السراج يقرب منه ونظره يكثر إلى أن يتصل به فيقوى نظره نظرا كليا ، فلو اتفق أن يتخذ السراج به حتى يكون في دماغه ملابسا لقواه لكان أكثر ، فكذلك فافهم أن القوة النفسية لا تزال تتزايد إلى ما لا نهاية ، فليميز ما بين النبي والصبي من الدرجات فالنفس آخذة في الكمال من حين تخلق إلى حين موتها ، فالموت إذا كمال الأجسام لأن النفوس تنزع المادة وتلحق بأفق الملائكة وهي الجنة العليا وهي جنة الملائكة ، فإن كانت نفسا شقية كان كمالا باعتبار تخليصها عن المادة ونقصانا من حيث تتخلف عن الجنبة العليل فلا تزال كئيبة حزينة على جسمها وملاذها وحواسها ، فإنها لم تعهد تركه قط ولم ترتض ذاتها على ترك الملاذ وكانت حين نزعها كثيبة على البدن فلا تزال في حسرة وندامة وألم ونهش وعقارب وحيات وسلاسل وأغلال أبد الآبدين ودهر الداهرين إلا من شاء ربك (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧]. فإذا واجب على كل من رزقه الله تعالى عقلا وميز بارئه ونفسه أن يسعى في حيلة الخلاص وليكن في أثناء الحيل الدنيوية والأخروية وذلك هو السعيد المطلق ، وليكن في الدنيا كمن امتحنه سلطان زمانه وبعثه إلى أرض يكرهها ويكره أهلها وأغذيتهم ولغتهم ، فإذا حصل بينهم علم أنه متى اعتزلهم وتركهم قتلوه وعذبوه ، وإن خالطهم كفوا عنه فيكون أبدا يعاملهم بظاهرة فيكلمهم ويأكل معهم ، ولكن قلبه وهمته وعشقه لقطره الذي خرج منه ، فإذا أخرجه الملك من بينهم ورده إلى قطره كان فرحا على مفارقتهم مسرورا لقطره ، فلو عكف عليهم وصرف همته إليهم ثم بعث إليه لكان خروجه خروجا كدرا ، فإنه ربما عشق نساءهم وسيرتهم فلا يزال معذبا وهذا غاية البيان في معنى الموت ، وقد فهمت العالم بأسره وحقائقه فإن أنت استعملت ذهنك وفكرتك حتى انفهم لك ذلك كنت ربانيا ونعم العبد لبارئك ، وناسبت الملائكة فوقعت المحبة والألفة بينكما ، وإن أنت لم تعبأ به ولم تعول عليه أو علمت ظاهره دون باطنه فما أقل نفعك به وما أعظم حسرتك. أعاذنا الله وإياك من ذلك هذا تمام السبعة المعارج التي تستعمل فيها القوة الفكرية وهي نهاية الغرض الذي أوردناه ، وربما تقربنا إلى الله تعالى ورغبنا فيما عنده في أن ننبه على الأشياء التي تكون ميزانا ومرآة للقوة المفكرة حتى لا تغلط في أكثر تصرفاتها ، فإن خلاف الناس قد كثر ومذاهبهم جمة لا تنحصر ، ومن عول على أخذ العلم عن إمام لا سيما مذهب الإمامية ، فإنهم زعموا أن الأرض لا تخلو طرفة عين من إمام قائم لله تعالى بحجة يخرج الخلق من التخمين إلى اليقين وينجيهم من ظلمات الشكوك ، فعلى مذهبهم لا يضر إن سافر الإنسان عن الإمام وزال عن بلده والمسائل أبدا لا تنحصر ، فيحتاج أن يراجعه في كل دقيق وجليل. وحق هذا التنبيه أن يكون مستقبلا بنفسه مستوعبا في أسفار كثيرة ومجلدات عديدة ، ولكن صادفت بالرغبة أيها الأخ قلبا مشتغلا مشتبك الفكر ولسانا كليلا قد تخمر بين أمور متنافرة وبقي معلقا بين الدنيا والآخرة ، فإن تلافاه الله سبحانه بدعاء الصلحاء وضراعة الأصدقاء والأصفياء ، وإلا قلّ أشياؤه وعاش معيشة ضنكا في دنياه ، والله سبحانه ينفع بعضا ببعض بعزته.