الثاني : أن معنى كونه تعالى قادرا أنه يصح منه إيجاد العالم وتركه ، كما يدل عليه ما قدمناه من أن القدرة صفة تؤثر على وفق الإرادة ، فليس شيء من إيجاد العالم وتركه لازما لذاته ، بحيث يستحيل انفكاكه عنه ، إلى هذا ذهب الملّيّون ، وقد أنكرت الفلاسفة القدرة بهذا المعنى ، فقالوا : إيجاده العالم على النظام الواقع من لوازم ذاته فيمتنع خلوه عنه ، وليس هذا خلافا منهم في تفسير القادر بأنه الذي إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، إلا أنهم زعموا أن مشيئة الفعل الذي هو الفيض والجود لازمة لذاته ، كلزوم سائر الصفات الكمالية ، لتوهمهم أن ذلك وصف كمال.
الثالث : أن متعلق العلم أعمّ من متعلق القدرة ، فإن (١) العلم يتعلق بالواجب والممكن والممتنع (٢) ، والقدرة إنما تتعلق بالممكن دون الواجب والممتنع. هذا تقرير ما تضمنه الأصلان الأولان.
وأما ما تضمنه :
الأصل الثالث
فقد قرره بقوله : (والعلم والقدرة) أي : الاتصاف بهما (بلا حياة) أي : بلا اتصاف بها (محال) وليس معنى الحياة في حقه تعالى ما يقوله الطبيعي من قوة الحس ولا قوة التغذية ولا القوة التابعة للاعتدال النوعي التي تفيض عنها سائر القوى الحيوانية ، ولا ما يقوله الحكماء وأبو الحسين البصري (٣) من أن معنى حياته تعالى كونه يصح أن يعلم ويقدر ، بل هي صفة حقيقية قائمة بالذات تقتضي صحة العلم والقدرة والإرادة.
ولا يخفى ـ مما سبق ـ تنزيهها عن كونها كيفية أو عرضا ، وكذلك كل صفة من صفات ذاته تعالى وتقدس.
__________________
(١) في (م) : لأن.
(٢) «الواجب» عند الفلاسفة : هو الذي لا يكون معلولا أي : لا يحتاج إلى علة ، وعند المتكلمين : هو الذي لا يقبل العدم ووجوده نابع من ذاته.
أما «الممتنع» فتعريفه عند الفلاسفة والمتكلمين واحد وهو : الذي لا يقبل الوجود.
(٣) أبو الحسين البصري : محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي ، متكلم ، أصولي ، سكن بغداد ودرس بها إلى حين وفاته بها سنة ٤٣٦ ه وقد شاخ ، من مؤلفاته الكثيرة : المعتمد في أصول الفقه ، تصفّح الأدلة في أصول الدين ، شرح الأصول الخمسة. (معجم المؤلفين ، ٣ / ٥١٨).