التاركين ديارهم لغيرهم كيف أماتهم الله ولم ينجيهم فرارهم ، ثم أحياهم ليكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم فالفرار من الموت لا يجدي وإنما يجدي الصبر والصمود حتى النصر ، ثم أمر تعالى المؤمنين بعد أن أخذ ذلك المنظر من نفوسهم مأخذه فقال : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ، ولما كان المال المقدم في القتال فتح الله لهم اكتتابا ماليّا وضاعف لهم الربح في القرض بشرط خلوصه وطيب النفس به ، ثم قدم لهم هذا العرض التفصيلي لحادثة أخرى تحمل في ثناياها العظات والعبر لمن هو في موقف المسلمين الذين يحاربهم الأبيض والأحمر وبلا هوادة وعلى طول الزمن فقال تعالى : وهو يخاطبهم في شخص نبيهم صلىاللهعليهوسلم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍ (١) لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) يريد ألم ينته إلى علمك بإخبارنا إيّاك قول أشراف بني إسرائيل ـ بعد وفاة موسى ـ لنبي لهم ابعث لنا ملكا (٢) نقاتل في سبيل الله فنطرد أعداءنا من بلادنا ونسترد سيادتنا ونحكم شريعة ربّنا. ونظرا إلى ضعفهم الروحي والبدني والمالي تخوف النبي أن لا يكونوا صادقين فيما طالبوه به فقال : (هَلْ (٣) عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) بتعيين الملك القائد أن لا تقاتلوا!؟ فدفعتهم الحميّة فقالوا : ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله والحال أنّا قد أخرجنا من (٤) ديارنا وأبنائنا ، وذلك أن العدوّ وهم البابليون لما غزوا فلسطين بعد أن فسق بنوا إسرائيل فتبرجت نساؤهم واستباحوا الزنى والربا وعطلوا الكتاب وأعرضوا عن هدى أنبيائهم فسلط الله عليهم هذا العدو الجبار فشردهم فأصبحوا لاجئين.
وما كان من نبي الله شمويل إلا أن بعث من تلك الجماعات الميتة موتا معنويا رجلا منهم هو طالوت وقادهم فلما دنوا من المعركة جبنوا وتولى اكثرهم (٥) منهزمين قبل القتال ، وصدق نبيهم في فراسته إذ قال لهم (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا).
__________________
(١) هو شمويل بن بال بن علقمة هكذا ذكره القرطبي في تفسيره ، ويقال فيه : شمعون أيضا ويعرف بابن العجوز لأنّ أمّه كانت عجوزا فسألت الله الولد فوهبها إياه بعد عقم وكبر سنّ.
(٢) (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ ..) فيه دليل على أنّ الجهاد لإعلاء كلمة الله لا بد له من إمام تجتمع عليه كلمة الأمّة ، وأيّما جهاد يخلو من إمامة شرعية يقاتل تحت رايتها فعاقبته خسر ، وشاهد هذا حال المسلمين اليوم فقد قاتلوا الاستعمار تحت شعار الأحزاب فلما انتصروا خسروا كل شيء حتى دينهم.
(٣) عسيتم : بكسر السين وعسيتم بفتح السين وهما قراءتان سبعيتان الأولى لنافع والثانية لحفص
(٤) إن الخروج من الوطن صعب على النفوس البشرية وهذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند خروجه من مكة قال : «إني أعلم أنك أحب البلاد إلى الله ولو لا أن قومك أخرجوني ما خرجت» ويقول : «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أكثر».
(٥) ولذا نهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمّته عن تمني لقاء العدو فقال : «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا».