بها في الدار الآخرة قال تعالى : (وَلَوْ تَرى) (١) يا رسولنا (إِذِ الْمُجْرِمُونَ) وهم الذين أجرموا على أنفسهم فدنسوها بالشرك والمعاصي الحامل عليها التكذيب بلقاء الله ، (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) أي مطئطئوها خافضوها عند ربهم من الحياء والخزي الذي أصابهم عند البعث. لرأيت أمرا فظيعا لا نظير له. وقوله تعالى (رَبَّنا أَبْصَرْنا (٢) وَسَمِعْنا) هذا قول المجرمين وهم عند ربهم أي يا ربنا لقد أبصرنا ما كنا نكذب به من البعث والجزاء وسمعنا منك أي تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا. (فَارْجِعْنا) أي إلى دار الدنيا (نَعْمَلْ (٣) صالِحاً) أي عملا صالحا (إِنَّا مُوقِنُونَ) أي الآن ولم يبق في نفوسنا شك بأنك الإله الحق ، وبأن لقاءك حق ، وقوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا (٤) لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) وذلك لما طالب المجرمون بالعودة إلى الدنيا ليعملوا صالحا فأخبر تعالى انه ما هناك حاجة إلى ردهم إلى الدنيا ليؤمنوا ويعملوا الصالحات ، إذ لو شاء هدايتهم لهداهم قسرا منهم بدون اختيارهم ، ولكن سبق أن قضى بدخولهم جهنم فلا بد هم داخلوها وهو معنى قوله : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي وجب العذاب لهم وهو معنى قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ) أي الجن (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي من كفار ومجرمي الجن والإنس معا.
وقوله (فَذُوقُوا) أي العذاب والخزي (بِما نَسِيتُمْ) (٥) أي بسبب نسيانكم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) فلم تؤمنوا ولم تعملوا صالحا إنا نسيناكم أي تركناكم في العذاب. (وَذُوقُوا عَذابَ (٦) الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الشرك والمعاصي هذا يقال لهم وهم في جهنم تبكيتا لهم وتقريعا زيادة في عذابهم ، والعياذ بالله من عذاب النار.
__________________
(١) الخطاب للرسول صلىاللهعليهوسلم لشرفه وأمته تابعة له والمعنى ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب العجاب من ذلتهم وخزيهم وندامتهم.
(٢) هذا مقول قول محذوف بعد ناكسو رؤوسهم يقولون أو قائلين ربنا الخ.
(٣) هذا كقولهم في آية : (أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ).
(٤) هذه الجمل اعتراضية بين قوله أبصرنا وقوله فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا وقوله ولو شئنا لآتينا الخ. رد عليهم حيث طلبوا العودة إلى الدنيا ليؤمنوا ويوحدوا
(٥) النسيان يكون بمعناه الأصلي وهو عدم ورود الشيء بالخاطر النفسي ويكون بترك الشيء وعدم الالتفات إليه مع ذكره في النفس والآخر أولى بالآية.
(٦) قد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس وإن لم يكن مطعوما لا حساسها به كإحساسها بذوق المطعوم قال الشاعر :
فذق هجرها إن كنت تزعم أنها |
|
فساد ألا يا ربّما كذب الزعم |
فاطلق الذوق على الهجر وهو غير مطعوم ولكنه محسوس بالنفس.