معنى الآيات :
قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (١) إنه بعد أن قرر تعالى التوحيد وندد بالشرك والمشركين أخبر تعالى ناعيا على المشركين شركهم ودعوتهم نبيه للشرك بأنهم بفعلهم ذلك ما قدروا الله حق قدره أي ما عظموه حق عظمته وذلك لجهلهم به تعالى حين عبدوا معه غيره ودعوا نبيه إلى ذلك ، وقوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً (٢) قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (٣) فالذي يجعل الأرض بكل طبقاتها وأجزائها في قبضته والسموات يطويها بيمينه فالسموات والأرض جميعا في يده ، ويقول أنا الملك أين الملوك. فصاحب هذه القدرة العظمى كيف يعبد معه آلهة أخرى هي أصنام وتماثيل أوثان. ولذا نزه تعالى نفسه بقوله (سُبْحانَهُ) أي تنزه وتقدس عن الشريك والنظير والصاحبة والولد وعن صفات المحدثين ، وتعالى عما يشركون أي ترفع عن أن يكون له شريك وهو رب كل شيء ومليكه.
وقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) (٤) الآية هذا عرض لمظاهر القدرة التي يتنافى معها عقلا وجود من يستحق العبادة معه سبحانه وتعالى ، والنافخ في الصور أي البوق اسرافيل قطعا إذ هو الموكل بالنفخ في الصور فإذا نفخ هذه النفخة صعق من (٥) في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، فهذا استثناء دال على أن بعضا من المخلوقات لم يصعق في هذه النفخة ، (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ) أي في الصور نفخة (أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) هذه النفخة تسمى نفخة القيام لله رب العالمين لأجل الحساب وقوله تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ) (٦) أي كتاب الأعمال للحساب (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) ليشهدوا على أممهم وجيء بالشهداء وهم أمة
__________________
(١) (حَقَّ قَدْرِهِ) فيه إضافة الصفة إلى الموصوف فحق صفة ، والقدر موصوف إذ الأصل (ما قدروا الله قدره الحق) فالحق منصوب على النيابة عن المفعول المطلق.
(٢) جرد جميع من التاء إذ لم يقل والأرض جميعة جريا على الغالب وقد أثبتت في قول الشاعر :
فلو أنها نفس تموت جميعة |
|
ولكنها نفس تساقط أنفسا |
ونصب جميعا على الحال.
(٣) شاهده في البخاري قوله صلىاللهعليهوسلم «يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض»؟ وفي الترمذي وصححه عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن قوله تعالى (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) قالت قلت فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال : على جسر جهنم ، وفي رواية على الصراط يا عائشة».
(٤) الصور البوق ينادى به البعيد المتفرق مثل الجيش ، والمراد هنا نداء الخلق لحضور الحشر أحياء للحساب والجزاء.
(٥) بالتتبع للآيات القرآنية المتضمنة لأحوال الدار الآخرة نجد أن النفخات للصور أربع نفخات : وهي نفخة الفناء ، ونفخة البعث ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام لرب العالمين. وفي هذه الآيات ذكر نفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين سميت هذه نفخة صعق لأن الخلائق يصعقون ولا يموتون بدليل حديث البخاري «فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله تعالى» لفظ مسلم. قال القرطبي والإفاقة إنما تكون من غشية وزوال عقل لا عن موت برد الحياة والله أعلم.
(٦) (الْكِتابُ) اسم جنس والمراد صحائف أعمال العباد الحاوي للحسنات والسيئات.