قال : فدنوت منه ، فلمّا رآني مقبلا نحوه (١) ثمّ تركني ومضى ، فقلت في نفسي : قد تكلّم هذا الفتى على سرّي ونطق بما في نفسي وسمّاني باسمي وما فعل هذا إلّا هو وليّ الله ، ألحقه وأسأله أن يجعلني في حلّ ، فأسرعت وراءه فلم ألحقه وغاب عن عيني فلم أره ، وارتحلنا حتّى نزلنا واقصة (٢) فنزلت ناحية من الحاجّ ، ونظرت فإذا صاحبي قائم يصلّي على كثيب رمل ، وهو راكع وساجد وأعضاؤه تضطرب ، ودموعه تجري من خشيّة الله عزوجل.
فقلت : هذا صاحبي لأمضينّ إليه ، ثمّ لأسألنّه أن يجعلني في حلّ.
فأقبلت نحوه فلمّا نظر إليّ مقبلا قال لي :
يا شقيق ، (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) (٣).
ثمّ غاب عن عينيّ فلم أره ، فقلت : هذا رجل من الأبدال وقد تكلّم على سرّي مرّتين ولو لم يكن عند الله فاضلا ما تكلّم على سرّي ، ورحل الحاجّ وأنا معهم حتّى نزلنا زبالة (٤) فإذا أنا بالفتى قائم على البئر وبيده ركوة يستسقي بها ماء فانقطعت الركوة ووقعت في البئر ، فقلت : «صاحبي والله»!
فرأيته قد رمق السماء بطرفه وهو يقول :
__________________
(١) في «أ» : (إليّ نحوه) ، وفي «س» «و» «ه» : (إليه نحوه).
(٢) واقصة : بكسر القاف والصاد المهملة. موضعان : منزل في طريق مكّة بعد القرعاء نحو مكّة ، وقيل : العقبة لبني شهاب من طيء ويقال لها واقصة الحزون وهي دون زبالة بمرحلتين ، وواقصة أيضا ماء لبني كعب ، وواقصة أيضا بأرض اليمامة قيل : هي ماء في طرف الكرمة وهي مدفع ذي مرخ (انظر معجم البلدان ٥ : ٣٥٣ ـ ٣٥٤).
(٣) سورة طه : ٨٢.
(٤) زبالة : بضمّ أوّله : منزل معروف بطريق مكّة من الكوفة ، وهي قرية عامرة بها أسواق بين واقصة والثعلبية (انظر معجم البلدان ٣ : ١٢٩).