فقالت فيه الروم ، وهو قولها المعلوم : إن الأقنوم (١) الإلهي الذي لم يزل موجودا ، ومن قبل الدهور من الأب مولودا ، أنزل إلى مريم العذراء فأخذ منها طبيعة بغير أقنوم فكان لطبيعتها أقنوما ، فعمل (٢) بطبيعتها التي أخذ منها كل ما كان لها في طبيعتها معلوما ، فنام كما كانت تنام نومها ، وإن لم يكن أقنومه أقنومها ، وفعل من أفعال طباعها فعلها ، وإن لم يكن أصله في الناسوت أصلها. قالوا : فعمل بطبيعتها فكان المسيح إنسانا تاما بطبيعتين ، وإن كان أقنوما واحدا لا اثنين ، والمسيح فهو ابن الله الأزلي المولود ، وعمل الطبيعتين جميعا فهو فيه موجود. قالوا : فإذا سرّ أو بكى ، أو ضحك أو اشتكى ، ـ وكلهم يقر ولا يشك ، أن قد كان يبكي ويضحك ـ فكل ما
__________________
ـ على الكمال ، إلا في مذهب الأشعري ، فإن ذات الله عندهم هي أصل لهذه المعاني ، وهو غير متعدد ، وزعموا أيضا أن هذه المعاني مستقلة بأنفسها ذواتا على انفرادها ، وهي القدرة ، والعلم ، والحياة ، وغيرها. وقالوا أيضا : إن هذه المعاني متعددة في أنفسها ، فزعم بعضهم أنها سبعة ، وزعم بعضهم أنها ثمانية ، فحصل من هذا أن الشرائط التي اعتبرتها النصارى في قولهم بالأقانيم ، لا توجد إلا في مذهب هؤلاء الأشعرية ، فهم يضاهونهم في مقالتهم ، ويكرعون معهم في آجن ضلالتهم.
قال : وقد فسر بعض النقلة من أهل المقالات كلام النصارى وقولهم بالأب ، والابن ، وروح القدس ، بما تقوله الفلاسفة من أنه تعالى عقل وعاقل ومعقول ، فهو من حيث أنه عقل لذاته أقنوم الأب ، ومن حيث أنه عاقل لذاته أقنوم الابن ، ومن حيث أنه معقول لذاته أقنوم روح القدس.
قال : واتفقت آراء الفرق النصرانية على القول بالاتحاد ، ثم اختلفوا في كيفيته ، فقال بعضهم : إن الاتحاد كان بامتزاج الذاتين.
وقال بعضهم : الاتحاد بالحلول.
وزعم بعضهم : أن الاتحاد كان بالانسان الكلي.
وبعضهم قال : الاتحاد بالانسان الجزئي ، إلى غير ذلك من التفرق والنزاع ، تعالى الله عن سخيف نحو هذه المقالات ، التي أذعنت لها السماء بالانفطار ، والأرض بالتشقق ، والجبال بالانحدار (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً).
(١) الأقنوم : اسم سرياني ، ومعناه الأصل ، والشيء المتفرد كما سبق.
(٢) سقط من (أ) و (د) و (د) : فعمل.