ينسبوا هداهم إلى ربهم الذي به اهتدوا ، وبعونه وتوفيقه رشدوا.
[القدرة قبل الفعل]
والقدريون المفترون يكرهون أن ينسبوا الضلالة إلى أنفسهم والفواحش ، ولا يقرون أن الله جل ثناؤه ابتدأ عباده بالهدى ولا بالتقوى ، قبل أن يصيروا إلى هدى أو تقوى ، خلافا لقوله ، وردا لتنزيله ، وإبطالا لنعمه ، وهو يقول جل ثناؤه : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٠]. يأمرهم بالتقوى إذ (١) كانوا لها مستطيعين ، فلو لم يكن لهم عليها استطاعة لما أمرهم بها ، ولو كانت استطاعة لغيرها لم يجز أن يقول : «اتّقوا ما الله استطعتم» ، إذ كانت الاستطاعة لغير التقوى. وقال جل ثناؤه : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) [الأعراف : ١٧١]. (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) [مريم : ١٢]. فقد أمرهم أن يأخذوا لأن الأخذ فعلهم ، والأمر والقوة فعل ربهم ، فلم يأمرهم جل ثناؤه أن يأخذوا ، حتى قوّاهم على ذلك قبل أن يأخذوا.
وكذلك قال في الصيام : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) [البقرة : ١٨٤]. يعني : على الذين يطيقون الصيام ولا يصومون فدية ، ونحو ذلك مما في القرآن. وذلك كله دليل على أن القوة قبل الفعل ، إذ كان الفعل لا يكون إلا بالقوة ، وكلما كان بشيء يكون ، أو به يقوم ، فالذي يكون الشيء أو يقوم به فهو قبله ، كذلك الأشياء كلها بالله جل ثناؤه كانت وبه قامت ، وهو قبلها. فكذلك القوة فينا قبل فعلنا ، إذ كان فعلنا لا يكون ولا يقوم ولا يتم إلا بها ، وكذلك يقول الناس : بقوة الله فعلنا. لا كما تقول القدرية المشبهون : إن الله جل ثناؤه لم يبتدئ العباد بالقوة! فأنعم عليهم بها قبل فعلهم! ولكنها كانت منه مع فعلهم.
ففيما وضعناه دليل وبرهان ، أن القوة من الله جل ثناؤه في عباده قبل فعالهم ، إذ كان بطاعته لهم آمرا ، وعن معصيته لهم ناهيا ، نعمة أنعم بها الله عليهم ، وأحسن بها
__________________
(١) في (ب) و (د) : إذا.