ولا تدبير ذي العلم القدير ، أن يريد كون بقائه ، إلا مع خلقه لمقيم إبقائه ، من مادة الغذاء ، وتركيب آلة الاغتذاء ، من الأفواه والأوعية ، وبسط الأيدي المغتذية ، لاستحالة بقاء المبقى ، مع عدم ما به يبقى ، واستنكار دوام دائم ، أو توهم قوام قائم ، جعلهما الله لا يدومان إلا بمديمهما ، ولا يقومان طرفة عين إلا بمقيمهما ، ثم يقطع المديم المقيم لهما عنهما ، وهو مريد مع قطعه لدوامهما ؛ لما في ذلك من الجهل الذي تعالى الله عنه ، وخطأ التدبير الذي بعد سبحانه منه.
[تدبير الخلق]
كنحو ما خلق من حيوان الأشياء ، الذي خلقه لا يبقى إلا بمادة الغذاء ، وجعل غذاءه لا يكون إلا ببرد الأرض (١) والماء ، وبما فطر سبحانه من حرارة النار والهواء ، وبما جعل من فصول السنة الأربعة ، وجعل السنة لا تكون إلا بشهورها المجتمعة ، وجعل الشهور لا تتم إلا بأيامها ولياليها ، وما قدرها الله عليه من تواليها ، وجعل الأيام لا تتم إلا بساعات أزمانها ، والأزمان لا تتم إلا بحركة الأفلاك ودورانها ، ثم فصل تعالى الليل من النهار ، وفرق برحمته بين الظّلم والأنوار ، لتمام ما أراد من إبقاء المدبّر ، ولينتشر في النهار كل منتشر ، في ابتغاء حاجاته ، وليسكن في الليل من فتراته ، ولم يجعل الليل والنهار سرمدا ، ولم يعرّ منهما من خلقه إلا مخلدا ، فقال سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢)) [القصص : ٧١ ـ ٧٢]. فجعل الليل والنهار رحمة منه ، ثم قسم تبارك وتعالى السّنة ، فجعلها أربعة أزمانا ، وفنّنها للبقاء أفنانا ، من شتاء وصيف ، وربيع وخريف ، ثم قدّر في كل فن ، ومع كل زمن ، من الأغذية ضربا ، يابسا فيه ورطبا ، لا يصلح في غيره ، ولا يتم إلا بتدبيره ، وجعل هذه الأزمنة عمودا لتناسل الحيوان ، وعلة لبقائهم إلى ما قدر
__________________
(١) في (ب) و (د) : إلا بالأرض.