منها.
وكذلك التمسك ببعض الدنيا ومقتها ، دليل ممن فعله على إكرام الآخرة ومحبتها ، وعلى قدر يقين أولياء الله بما عظّم من أمر الآخرة وأمورها ، زهدوا في الدنيا فاستقلوا ـ جهدهم ـ من متاع غرورها ، فتبلغوا إلى الله بالعلق (١) ، واكتفوا من نعيمها باللعق (٢) ، إكبارا لما وجدوه فيها إجلالا لله من السخط ، ولما عليه العباد فيها من الإعراض عن أمر الله والفرط ، ولما (٣) رأوا الباطل يسمو علوّا ، وحق الله فيها معطلا مجفوا ، صحبوا أيام حياتهم بالحرق (٤) والزفرات ، وهجروا ما أحل الله لهم فيها من الطيبات ، وأعرضوا من الدنيا عما أعطاهم ، ولم يعطه من أهل الدنيا بتحليله له سواهم ، ولم يجعله حلالا (٥) فيها إلا لمن اهتدى إلى الله فيه هداهم ، وأيقن فيها بالله يقينهم ، ودانه في إيثار الحق دينهم ، فحقيق بذلك منهم لسخطهم فيها على من أسخط ذا الجلال والإكرام ، أولا تعلم ـ أغناك الله ـ أن من أسخط لنفسه (٦) الآدميين ليشتغل عن كثير من المطعم والمشرب والكلام ، لما هو فيه من الشغل بحرقه وأسفه وسخطه ، حتى ربما ذهب سخط بعضهم في ذلك بعقله لفرطه ، فكيف بمن سخط وغضب لرب الأرباب ومغاضبه؟ أليس ذلك أولى بالقليل في تنعمه ومطاعمه ومشاربه؟ بلى إنه لأولى بذلك ، وأحق ممن كان كذلك ، ولذلك أزكى عند الله وأرضى ، وأوجب في الفرض لو كان من الله فرضا ، ولكنه سبحانه لرحمته بالمؤمنين وإحسانه إليهم ، ورأفته بهم وتحننه (٧) عليهم ، جعل ذلك لهم سبحانه تطوعا ونافلة ، وفيما بينهم وبينه فضائل لهم كاملة ، فقال جل ثناؤه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
__________________
(١) العلق : جمع علقة. وهي : ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغذاء. وقال اللحياني : ما يأكل فلان إلا علقة. أي : ما يمسك نفسه من الطعام.
(٢) اللّعق : جمع لعقة. وهي : الشيء القليل من الطعام.
(٣) في (د) : فلما.
(٤) الحرق : جمع حرقة. وهي : ما يجده الإنسان من لذعة حب ، أو حزن ، أو طعم شيء فيه حرارة.
(٥) من هذا أخذت المطرفية أن ما أخذه العصاة من الرزق لا يسمى رزقا.
(٦) في (د) : لنفسه من الآدميين.
(٧) في (ب) : ومحبته.