__________________
والجدير بالذكر أنّ جميع فرق المجوس يشتركون في القول بمبدأين : مبدأ الخير ومبدأ الشر وإن كان بينهم في هذا الزعم الباطل اختلاف في بعض الجهات ، وقد أشار إلى بعضها في شرح الأصول الخمسة راجع من صفحة ٢٨٤ إلى ٢٩١ طبعة القاهرة ، والذي أوقعهم في هذا المذهب ـ أعني القول بالمبدأين ـ هو وجود الخير والشرّ في هذا الكون فاستدلّوا بوجودهما على تعدّد المبدأ الأوّل ، فإنّ المبدأ الحقّ سبحانه لمّا كان خيرا محضا محال أن يكون مبدأ للشرور ومصدرا لها ؛ لعدم السنخية فيلزم أن يكون للشرور مبدأ من سنخها ليكون هو مصدر الشرور ومنبعا لها. ومنشأ هذه الشبهة هو تخيّل أنّ الشرور مثل الخيرات عبارة عن الحقائق الخارجية ، وأنّ في الخارج حقيقتين ثابتتين مختلفتين بالخيرية والشريّة وسنخين من الوجود ، فلا بد من مبدءين لهما : أحدهما مبدأ الخير والآخر مصدر الشرّ ، ومن كلّ واحد منهما يترشّح ظهور مناسب له ، وهذا هو القول بخالقين اثنين إمّا أحدهما قديم والآخر حادث ، أو هما قديمان ، أو حادثان خلقهما الله تعالى : أحدهما خالق الخيرات بالايجاب والآخر خالق الشرور كذلك لا بالاختيار ، وهذا هو القول بالتثليث كما هو التحقيق.
والغرض أنّ الشبهة المذكورة أوقعت المجوس في الشرك والقول بالاثنين أو التثليث. وأجاب الحكماء قبل الإسلام عن هذه الشبهة المضادة للتوحيد بأجوبة دقيقة : منها أنّ الشرور في العالم ليست إلّا سلوبا وعدميات وليست قابلة لأن تقع تحت الجعل أولا وبالذات ، فلا يتعلّق أن يستدعي مبدأ موجودا حتّى تكون مجعولة من جانبه بل عدمها من جهة عدم العلة لها.
وبعبارة أوضح أنّ السلوب التي هي عدم وملكة كالعمى والصمّ وأمثالهما ، فحقيقتها عدم الإفاضة وفقدان الفيض ، يعني لم يصل فيض البصر والسمع مثلا ، وعدم الفيض وفقدان الإفاضة ليسا مثل وجود الفيض والإفاضة كي يستدعي الفائض والمفيض ويكون بدون ذلك محالا بل عدم العلة كاف في ذلك. قال الحكيم السبزواري (ره) : والشرّ أعدام فكم قد ضلّ من يقول باليزدان ثمّ الأهرمن.
ومنها ما ذكره أرسطو في جواب شبهة المجوس : أنّ الأشياء بالحصر العقلي يتعقّل على خمسة أقسام إمّا خير محض أو شر محض وإمّا خير من جهة وشرّ من جهة ، وهذا يتعقل على ثلاثة أقسام إما خيره غالب وإمّا شرّه وإمّا مساو فيهما ، وما في الخارج من الشرور خيرها غالب على شرّها ، فإيجادها خير ؛ لأنّ إيجاد الشر القليل لحصول الخير الكثير خير ليس بشر ، فإيجاد الموجودات خير نشأ من مبدأ الخير.
ولمّا جاء الإسلام وأشرقت الأرض بنور ربّها ، وطلعت شمس الرسالة من أفق الحجاز ، وظهر النبي العربي خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآله وانتشرت راية التوحيد في العالم ، فاضمحلّت الشبهة الشيطانية عن الكون وغلب المسلمون على البلاد وأبادوا الشرك والظلم والأنانية والطغيان ، وبيّن الاسلام أنّ كلّ سوء وشرّ في العالم يصل إلى البشر ويظهر في الكون ، فالباعث له والسبب له هو المكلّف ، بسبب الاستحقاق الذي اكتسبه بسوء اختياره ، فإن لم يكن سوء اختياره في البين فلا يصل من جانب الله تعالى إليه شرّ وسوء أصلا ، بل سعة رحمته وجوده وكرمه وعظمته لا تقتضي إلّا الخير ولم يكن شيء من الله تعالى في حقّ المخلوق إلّا الخير.