الخامس : إنّا سنبيّن أنّ الإيمان هو التصديق ، وهو علّة في استحقاق الثواب ، وهو باق قبل المعصية وبعدها ، فإذا كانت العلّة موجودة وجب وجود معلولها ، وهو المطلوب ، فيبطل الإحباط والموازنة معا (١).
__________________
(١) والتحقيق في مسألة الإحباط والتكفير أنّه لا نزاع في بطلان الكفر واستحقاق العقاب الذي حصل له بالإيمان. وكذا لا نزاع في بطلان الإيمان وسائر الطاعات والأعمال واستحقاق الثواب بها بالكفر ، فيقال باشتراط وصول ثواب الطاعات على عدم حصول الكفر والموت على الإيمان. وكذا حصول العقاب بالكفر مشروط بعدم الإيمان والموت على الكفر ، والقرآن الكريم نصّ صريح في ذلك قال الله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ).
ومورد النزاع في المسألة هو المؤمن المطيع إذا فعل ما يستحقّ به عقابا ، فاختلف فيه أنّه هل يجتمع له استحقاق ثواب واستحقاق عقاب أم لا؟ فذهب أهل التحقيق والنظر الدقيق من الإمامية بل أكثرهم أنّه يجتمع له ذلك ، وقال جمهور المعتزلة : إنّه لا يمكن له ذلك ، وقالوا بالإحباط والتكفير ، وهو على خلاف التحقيق والتحليل العلمي الصحيح.
ثمّ المراد من الإحباط والتكفير هو البطلان والفساد وعدم التأثير للأعمال في سعادة الإنسان وشقاوته ، لا المحو والإعدام والمحق والتنسيف بالكلّية وصيرورة الأعمال معدومة بحيث لا يبقى منها شيء ، كما هو ظاهر تعبيرات جمع كثير منهم ، فإنّهم يعبّرون عنهما بالمحو ، والمحق والإفناء ، حيث يقولون : الإحباط عبارة عن إفناء كلّ من الاستحقاقين للآخر أو المتأخّر للمتقدّم أو بتعبير بعضهم : هو الانتفاء ، وفي اللغة : الإحباط هو الابطال والإفساد ، حبط عمله أي بطل وفسد.
فيظهر من ذلك أنّ الإحباط بمعنى إفساد الثواب وإبطاله لا محو العمل ومحقه وإعدامه بحيث لا يبقى شيء ، بل سقوطه عن قوّة التأثير بحصول الثواب في حقّ صاحبه ، وكذا الأمر في التكفير ، وهذا لا يستلزم إفناء العمل ومحوه بتاتا ، بل العمل الفاسد الباطل يبقى على تلك الحالة ويسقط عن قوّة التأثير ، فلا منافاة بين ظواهر عدّة من الآيات القرآنية في إبطال الكفر واستحقاق العقاب به بالإيمان وكذا في إبطال الإيمان وسائر الطاعات واستحقاق الثواب بالكفر ، وبين قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فإنّ الكفر واستحقاق العقاب له يبطل بالإيمان ويفسد به ، ولا يكون له تأثير بعد حصول الإيمان ، وكذا الإيمان واستحقاق الثواب به يبطل بالكفر ويفسد ولا يكون له تأثير بعد حصول الكفر ، لا أنّهما يصيران معدومين تماما ، بل الكفر والأعمال الصادرة في حالته وكذا الإيمان والأعمال الصادرة في حالته باقيان في حالة البطلان والفساد ، ويبقيان في حال عدم التأثير حتّى يراهما الإنسان يوم القيامة.
وأمّا المؤمن المطيع إذا فعل ما يستحقّ به العقاب فلا يبطل الاستحقاقين في حقّه ، ويجتمعان في حقّه ، ليرى أعمال نفسه واستحقاقه الثواب والعقاب عند الميزان ، أو تدركه الشفاعة إن لم يوفّق للتوبة ونحوها ، ـ