أقول : لما بين انتفاء الجزم بعدم الجوهر المجرد الذي هو العقل شرع في بيان انتفاء الجزم بثبوته وذلك ببيان ضعف أدلة المثبتين.
واعلم أن أكثر الفلاسفة ذهبوا إلى أن المعلول الأول هو العقل الأول وهو موجود مجرد عن الأجسام والمواد في ذاته وتأثيره معا ثم إن ذلك العقل يصدر عنه عقل وفلك لتكثيره باعتبار كثرة جهاته الحاصلة من ذاته ومن فاعله ، ثم يصدر عن العقل الثاني عقل ثالث وفلك ثان وهكذا إلى أن ينتهي إلى العقل الأخير وهو المسمى بالعقل الفعال ، وإلى الفلك الأخير التاسع وهو فلك القمر.
واستدلوا على إثبات الجواهر المجردة التي هي العقول بوجوه :
الأول قالوا إن الله تعالى واحد فلا يكون علة للمتكثر فيكون الصادر عنه واحدا فلا يخلو إما أن يكون جسما أو مادة أو صورة أو نفسا أو عرضا أو عقلا والأقسام كلها باطلة سوى الأخير.
أما الأول : فلأن كل جسم مركب من المادة والصورة وقد بينا أن المعلول الأول يكون واحدا وإلى هذا القسم أشار بقوله الواحد لا يصدر عنه أمران.
وأما الثاني : فلأن المادة هي الجوهر القابل فلا تصلح للفاعلية لأن نسبة القبول نسبة الإمكان ، ونسبة الفاعل نسبة الوجوب ويستحيل أن تكون نسبة الشيء الواحد إلى الواحد نسبة إمكان ووجوب فإذا لم تصلح المادة للفاعلية لم تكن هي المعلول الأول السابق على غيره لأن المعلول الأول يجب أن يكون علة فاعلية لما بعده وإلى هذا القسم أشار بقوله ولا لما انتفت صلاحية التأثير عنه أي لا سبق للمادة التي لا تصلح أن تكون فاعلا وإذا لم تكن سابقة لم تكن هي المعلول الأول لما بينا أن المعلول الأول سابق على غيره من المعلولات.
وأما الثالث : فلأن الصورة مفتقرة في فاعليتها وتأثيرها إلى المادة لأنها إنما تؤثر إذا كانت موجودة مشخصة وإنما تكون كذلك إذا كانت مقارنة للمادة فلو كانت الصورة هي المعلول الأول السابق على غيره لكانت مستغنية في عليتها عن المادة وهو محال فالحاصل أن الصورة محتاجة في وجودها الشخصي إلى المادة فلا تكون سابقة عليها وعلى غيرها من