وقد ذهب جماعة من القدماء إلى أن النفس تعقل الأمور الكلية بذاتها من غير احتياج إلى آلة وتدرك الأمور الجزئية بواسطة قوى جسمانية هي محال الإدراك ، والحكم الأول ظاهر فإنا نعلم قطعا أنا ندرك الأمور الكلية مع اختلال كل عضو يتوهم آلة للتعقل وقد سلف تحقيق ذلك ، وأما الحكم الثاني وهو افتقارها في الإدراك الجزئي إلى الآلات فلأنا نميز بين الأمور المتفقة بالماهية المختلفة بالوضع لا غير كما أنا نفرق بين العين اليمنى واليسرى من الصورة التي نتخيلها ونميز بينهما مع اتحادهما في الحقيقة واختلافهما في الوضع فليس الامتياز بينهما بذاتي ، ولا بما يلزم الذات لفرض تساويهما بل بأمور عارضة ثم اختصاص كل واحدة منهما بعارضها ليس في الوجود الخارجي لأن المتخيل قد لا يكون موجودا في الخارج فليس الامتياز إذن للمأخوذ عنه بل للآخذ فإن كان محل إحداهما هو بعينه محل الأخرى استحال اختصاص إحداهما بكونها يمنى والأخرى بكونها يسرى لأن نسبة العارض إليهما واحدة فبقي أن يكون المحل مختلفا حتى يكون الجانب الذي تحل فيه إحداهما غير الجانب الذي تحل فيه الأخرى.
إذا عرفت هذا فقوله وتعقل بذاتها إشارة إلى ما ذكرناه من أن التعقل للأمور الكلية لذات النفس من غير آلة وقوله وتدرك بالآلات ، إشارة إلى أن إدراك الأمور الجزئية إنما يكون بواسطة قوى جسمانية وقوله للامتياز بين المختلفين وضعا ، إشارة إلى ما مثلناه من الامتياز بين العينين وقوله من غير إسناد أي من غير إسناد إلى الخارج.
المسألة الثانية عشرة
في القوى النباتية
قال : وللنفس قوى تشارك بها غيرها وهي الغاذية والنامية والمولدة
أقول : لما كان البدن آلة للنفس في أفاعيلها المنوطة به كان صلاحها بصلاحه ولما كان البدن مركبا من العناصر المتضادة وكان تأثير الجزء الناري فيه الإحالة احتيج في بقائه إلى إيراد بدل ما يتحلل منه فاقتضت حكمة الله تعالى جعل النفس ذات قوة يمكنها