وهنا نأخذ عليه بالنقد بأنّه كان يعتقد بمعرفة يقينية أخرى قبل إذعانه بوجود الإله ، وهي أنّ كل ظاهرة تحتاج إلى علّة ، وأنّ كل معلول في الخارج أو الذهن لا ينفك عن شيء يوجده ، لاستحالة خروج الشيء إلى عالم الوجود من لا شيء. ولو لا إذعانه بهذه القضية ، لما حاول التعرّف على علّة وجود تلك الفكرة في ذهنه.
٥ ـ المعلول لا يكون أكمل من علّته ، معرفة سابقة
قال ديكارت في مقام البرهنة على «وجود الله» : «لا يمكن أن أكون أنا مصدر هذه الفكرة ، لأنّ حقيقة هذا الجوهر تتجاوز ماهيتي وحقيقتي». وهذا الاستدلال يدلّ على أنّه كان ذا معرفة فطرية أُخرى ، وهي أنّ الشيء لا يمكن أن يكون أكمل من سببه ، وإلّا لكانت الزيادة في المسبّب ناشئة من لا شيء.
كل ما ذكرناه يعرب عن أنّ ما توهمه «ديكارت» ، أُسس المعرفة اليقينية ، ليست كذلك ، بل تسبقها أُسس ومنطلقات أُخرى يبتني عليها التفكير الإنساني ، كان ديكارت معترفاً بها في صميم ذاته.
٦ ـ الفكر المطلق لا يدل على مفكر خاص
استدلّ ديكارت على وجود المفكر بوجود التفكير ، وهذا صحيح على وجه وخاطئ على آخر. فلو كان مراده الاستدلال على أنّ الفكر المطلق دليل على وجود المفكّر ، فهو صحيح لا غبار عليه ولكنه لا يثبت وجوده الخاص. وأمّا لو كان مراده هو الاستدلال بوجود الفكر المطلق على مفكّر خاص ، وهو وجوده ، فهو غير صحيح ، إذ لا ملازمة بين وجود الفكر المطلق ووجود مفكر خاص هو نفس ديكارت وذاته وذهنه.
ولو أراد الاستدلال بوجود الفكر الخاص ، أي فكر نفسه وشخصه وذاته ، فعندئذٍ يكون قد أقرّ بوجوده واعترف به ، وذلك لأنّ الفكر المطلق لا ينقلب إلى الفكر الخاص إلّا إذا أُضيف إلى شخص ومُفكّر وذهن يقوم به الفكر ، وعند ما يلاحظ الفكر الخاص ، فإنّه يلاحظ في ضمنه وجوده وشخصه. فكيف يريد الاستدلال على ما يذعن به قبل الاستدلال؟