الشك المنهجي لدى الغزالي
بدأ الغزالي قراءة كتب الفلسفة حوالي سنة ٤٨٤ ه ق ، وهو في الرابعة والثلاثين من عمره ، فأخذ فكره يتغير مجراه ، وحدثت له أزمة روحية كان من نتائجها أن شكّ في اعتقاداته الموروثة. وهذا الشك كان أوّل دافع له إلى النظر العقلي الحرّ ، وهو يعترف في بعض كتبه بما لهذا الشك من فائدة ، حتّى قال : إنّ من لم يشك لم ينظر ، ومن لم ينظر لم يبصر ، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة والضلال ، ولا خلاص للإنسان إلّا في الاستقلال (١).
وهو يذكر تلك المرحلة من عمره بقوله :
«وقد كان التعطّش إلى درك حقائق الأُمور دأبي وديدني من أول عمري وريعان شبابي ... حتّى انحلت عني رابطة التقليد ، وانكسرت عليّ العقائد الموروثة على قرب عهد الصبا ، إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلّا على التنصّر ، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلّا على التهوّد ، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلّا على الإسلام ، وسمعت الحديث المروي عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث قال : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه» ، فتحرك باطني إلى طلب حقيقة الفطرة الأصلية ، وحقيقة الحقائق العارضة بتقليد الوالدين والأُستاذين ، والتمييز بين هذه التقليدات وأوائلها تلقينات ، وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات.
فقلت في نفسي أولاً : إنما مطلوبي العلم بحقائق الأُمور ، فلا بد من طلب حقيقة العلم ما هي؟ فظهر لي أنّ العلم اليقيني هو الّذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم.
ولا يتسع القلب لتقدير ذلك ، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين مقارنَةً ، لو تحدَّى بإظهار بطلانه ، مثلاً ، مَنْ يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً ، لم يورث ذلك شكاً ولا إنكاراً. فإنّي إذا علمت أنّ العشرة أكثر من الثلاثة ، فلو قال لي قائل : «لا بل الثلاثة أكثر من العشرة ، بدليل أنّي أقلب هذه
__________________
(١) ميزان العمل : ٢١٦.