وعلى ضوء ذلك ، فأنصار هذا المنهج من الماديين كانوا يعتقدون ـ في باب نظرية المعرفة ـ بالإدراكات الصحيحة المطلقة ، وأنّ أدوات الإدراك ، كالحسّ ، ليس لها دور إلّا كونها وسائل انتقال من الخارج إلى الذهن. فالعين ـ مثلاً ـ جهاز شبيه بعدسة آلة التصوير ، تأخذ صور الأشياء من الأشياء ، في ظلّ حركات ميكانيكية ، لا تمسّ حقيقة الصورة الملتقطة ولا تُبدّل فيها. فما لدى الإنسان من صور الأشياء ، لا يختلف عمّا في الخارج ، في الماهية ، ولو كان ثمة اختلاف ، فإنّما هو في كيفية الوجود ، وأنّ الحركة العارضة عليها لا تمسّ صميم المادة والصورة. فالصورة المأخوذة من الخارج موجودة في محالّ الإدراك من دون أن يطرأ عليها تحوّل وتبدّل ، فهؤلاء كانوا ماديين ، موضوعيين ، واقعيين على الإطلاق.
٢ ـ المادية الديالكتيكية
ولما أطلّ القرن التاسع عشر ، أخذت الفلسفة المادية لنفسها منحى آخر في مجال الحركة الطبيعية ، فذهبت إلى أنّ الحركة في المادة أمرٌ ذاتيٌّ لها ، نابعة من صميم المادة وصلبها ، ولا تفرض من عامل خارج عنها. وهكذا ، تبدلت الفلسفة المادية الميكانيكية إلى فلسفة مادية ديالكتيكية ، وأخذت لنفسها عين الاتّجاه الّذي سلكه النسبيون.
وقد بنى الديالكتيكيون نظريتهم على أُصول مسلَّمة عندهم ، هي :
١. لا شيء في دار الوجود غير المادة وقواها. فالوجود هو المادة ، والمادة هي عين الوجود (الوجود / المادة).
٢. التكامل والتحوّل ، ذاتيان للمادة ، لا ينفكان عنها.
٣. المادة لا تسكن عن فعلٍ وانفعالٍ ، وتأثيرٍ مستمرٍ بين أجزائها ، ولا تهدأ عن التفاعل آناً ما.
وعلى هذه الأُصول ، قالوا : التفكير عبارة عن الأثر المتولد من تأثير الخارج في الأعصاب أو الدماغ ، وتأثرها به (١). وإن شئت قلت : التفكير عبارة عن الأثر
__________________
(١) المراد أن الخارج معدّ لحدوث التغيرات الذاتية في الدماغ.