وقد كان المترقب من الحسيين الذين يحصرون أدوات المعرفة بالحسّ أن يعطوا المعرفة الحسيّة سمة المعرفة اليقينية الصحيحة ، ولكنهم ذهبوا إلى خلافه ، وحصروا قيمتها في الإعانة على أُمور الحياة ومشاكلها ، لا أكثر ، كما عرفته في فلسفتي «ديكارت» و «لوك». فكل ما يؤدّيه حسّ الإنسان لا يعدو عن كونه يدفع عنه ألم الجوع ، والعطش ، والبرد القارس ، والحرارة اللافحة .. ويساعده على تمييز النافع من الضار ، والمصالح من المفاسد. وقد وقفت على فساد هذه النظرية وأنّها تنتهي إلى الشك في كثير من المجالات.
الأمر الثالث : هل الحسّ هو الأداة الوحيدة للإدراك؟
إنّ الحسيين وفي مقدمهم «جان لوك» (١) حاولوا إرجاع جميع التصورات والأفكار إلى الحسّ ، وقد شاعت هذه النظرية بعده بين فلاسفة أوروبا وقضت إلى حدّ ما على نظرية الأفكار الفطرية الّتي كان يقول بها «ديكارت» (٢).
وحاصل هذه النظرية أنّ ذهن الإنسان حين يولد يكون خالياً من كل معرفة ، ثمّ تبدأ صور الأشياء المحسوسة بالانتقاش فيه من خلال ما يرد إليه عن
__________________
(١)ekcoL nhoJ.
(٢) إنّ حصر مناشئ العلم بالحسّ ليس فكرة جديدة ظهرت بين الأوروبيين ، بل لها جذور في التاريخ. فإنَّ «السُّمْنِيّة» من حكماء الهند والصين ، زعموا أنّه لا يُعلم شيء إلّا من طريق الحواس الخمس ، وأبطلوا العلوم النظرية. ولأجل ذلك شطبوا على المذاهب كلّها.
قال البغدادي (المتوفّى ٤٢٩ ه) : «ويلزمهم على هذا القول إبطال مذهبهم ، إذ يقال لهم : بما ذا عرفتم صحّة مذهبكم. فإن قالوا : بالنظر والاستدلال ، لزمهم إثبات النظر والاستدلال طريقاً إلى العلم بصحة شيءٍ ما ، وهذا خلاف قولهم. وإن قالوا : بالحسّ ، قيل لهم : إنّ العلم بالحسّ يشترك في معرفته أهل الحواس السليمة ، فما بالنا لا نعرف صحة قولكم بحواسنا. فإن قالوا : إنّكم قد عرفتم صحة قولنا ، بالحسّ ، ولكنكم جحدتم ما عرفتموه ، لم ينفصلوا ممن عكس عليهم هذه الدعوى وقال لهم : بل أنتم عارفون بصحة قول مخالفيكم وفساد قولكم بالضرورة الحسيّة ، ولكنكم جحدتم ما عرفتموه حسّاً». (لاحظ : أُصول الدين : ١٠ ـ ١١). وفي هذه المناسبة نذكر أنّهم اختلفوا في الفاضل من العلوم الحسية والنظرية ، فقدّم أبو العباس القلانسي العلوم النظرية على الحسيّة ، وقدّم أبو الحسن الأشعري العلوم الحسيّة على النظرية لأنّها أُصول لها. (المصدر السابق : ١٠).