فالعقل في هذه العملية ينتقل من حكمٍ كلّي إلى حال موضوع خاص ، ولأجل إيضاحه نضرب بعض الأمثلة :
مثال أوّل : إذا وقف العقل على أنّ لكل ظاهرة طبيعيّة ، علةٌ ، يحكم بأنّ للثورة الفرنسية علّة ، وللحريق الواقع في غابة أو معمل سبب ، كما يحكم ـ في ظل هذه القاعدة الكليّة ـ بأنّ لكلِّ موجود إمكاني ، كالإنسان والحيوان والنبات والجماد ، علّةً أخرجته من كتم العدم إلى ساحة الوجود.
مثال ثان : أُفرض أنّ الإنسان وقف عن طريق البرهان على أنّ زوايا المثلث تساوي ١٨٠ درجة. وقد استقرّ عقله على هذا الحكم الكلّي ، فكلُّ مثلث يُعرض عليه في أي نقطة من نقاط الدنيا ، يحكم ـ بفضل ما حصّله بالبرهان ـ بأنّ زواياه ١٨٠ درجة.
مثال ثالث : إذا استخرج عن طريق البرهان الفلسفي أنّ التغيّر يلازم الحدوث ، أي الوجود بعد العدم ، فيستنبط حكماً كليّاً من البرهان ، وهو أنّ كل متغيّر حادث. وفي ضوء هذا الحكم الكلّي ، كلما عُرض عليه جزء من هذا العالم المتغير ، سمائِه وأرضِه ، ذرَّتِه ومجرَّتِه ، يحكم بأنّه حادث.
وقس على ذلك جميع البراهين العقلية في مجال الرياضيات والفلسفة والاجتماع ، فالعقل يُحْضِر الحكم الكلّي عن طريق البرهان ثمّ يطبقه على الموارد المعروضة عليه.
مثال رابع : العقل يحكم عن طريق البرهان بأنّ الدور محال. وذلك لأنّ معنى الدور أن يتوقف (أ) على (ب) ، وفي الوقت نفسه يتوقف (ب) على (أ) فتوقف (أ) على (ب) ، معناه كون وجوده ناشئاً منه ومفاضاً عنه ، فيستلزم تقدّم (ب) على (أ) زماناً أو رتبة. فلو فرضنا في الوقت نفسه توقف (ب) على (أ) ـ الّذي معناه تأخر (ب) عن (أ) لكون وجوده ناشئاً منه ـ يلزم أن يكون شيء واحدٌ ، في آن واحد ، ولحاظ فارد ، متقدماً ومتأخراً ، وليس هذا إلّا اجتماع للمتضادين وهو محال. وكل ما استلزم المحال ، محال ، فالدور محال.
فهذا ما يستلزمه الدور. وعلى ضوئه ، فَكُلُّ فَرضيَّةٍ علمية تعرض على