وهذا إشكال معروف طرحه الفلاسفة الإسلاميون في كتبهم وأجابوا عنه ، وقد روي أنّ الشيخ العارف ، أبا سعيد بن أبي الخير (١) ، أورد هذه الشبهة على رئيس الحكماء ابن سينا لإثبات أنّ الفكر غير موصل للإنسان إلى استكشاف المجاهيل ، لأنّ الاستنتاجات كلّها تحصل من طريق الشكل الأول ، والأشكال الثلاثة الأُخرى منتهية إلى الأول ، وهو مستلزم للدور.
الجواب
أُجيب عن هذه المشكلة بوجوه مختلفة ، أظهرها أنّ العلم بالنتيجة ، وإن كان موقوفاً على العلم بكلية الكبرى ، إلّا أنّ العلم بكليّة الكبرى موقوف على البرهان العلمي الدالّ على الملازمة بين بلوغ الحرارة درجة (١٠٠) ، وغليان الماء ، من غير ملاحظة مصداق دون مصداق. فليست صحة الكبرى ولا كليتها متوقفتان على العلم بالنتيجة أبداً ، بل متوقفتان على وجود تلك الملازمة ، وبما أنّ هذا الحكم ، حكم تجريبي ، يتوقف العلم بكليته على قياس عقلي ، وهو ما قدمنا بيانه من أنّ حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد ، ولا يتوقف أبداً على العلم بالصغرى.
والّذي أوقعهم في الشبهة ، هو توهمهم أنّ الكبرى حصل بها العلم من طريق الاستقراء ، ومن المعلوم أنّ الحكمَ الكليَّ فيه ، يتوقف على العلم بحكم المصاديق تفصيلاً أو إجمالاً ، فيلزم عندئذٍ الدور. ولكنهم غفلوا عن أنّ العلم بالحكم الكلي ، تارة يحصل من الاستقراء التامّ ، فيحصل العلم بالنتيجة قبل العلم بالحكم الكلي ، وأُخرى بالبرهان الدالّ على الملازمة بين الموضوع ، والمحمول. وفي مثله ، لا يتوقف العلم بالحكم الكلي ، على العلم بأحكام الأفراد ، لا إجمالاً ولا تفصيلاً ، بل إذا علم من طريق البرهان أنّ بين غليان الماء ، وبلوغه درجة حرارة (١٠٠) ملازمة ، يحكم بأنّ درجة الحرارة هي (١٠٠) لكل مصاديق الماء الّذي يغلي. فالعلم بأحكام المصاديق ، يحصل من العلم بالحكم الكلي ، لا العكس ، كما هو مبنى الشبهة.
__________________
(١) (٣٥٧ ـ ٤٤٠ ه).