ففي ظل هذا الحكم العقلي الّذي يعبّر عنه بتعابير مختلفة ، يحكم العقل بسريان الحكم إلى جميع الأفراد في جميع الأزمنة.
نعم ، لا يمكن إسراء الحكم إلى الموضوع الّذي يختلف مع مورد التجربة اختلافاً جزئياً ، فضلاً عن الاختلاف الفاحش ، فلو كنّا أجرينا التجربة على حديد خاص من حيث التركيب ، كالحديد المطاوع ، فلا يمكن إسراء هذا الحكم على الحديد الّذي يغايره فيه ، كالفولاذ.
هذا هو الأساس لانتزاع العلماء قوانين كليّة عامة من التجربة.
ولنضرب مثالاً آخر : لو أجرى عالماً كيميائياً تجربة على عقار خاص فوجده ناجعاً في معالجة الصداع ، الناشئ من عوامل معينة ، ومؤثراً في أفراد معينين من الناس إذا أُعطي بمقدار معين. ثمّ كرر التجربة مرّات عديدة وفي ظروف مختلفة على الصداع الّذي له تلك الخصوصيات ، فوجده مؤثّراً في جميعها ، يقطع بالنتيجة الّتي توصّل إليها ، وبعموميتها لجميع الحالات المماثلة ، وما ذلك إلّا لأنّ الحكم بالتخصيص ورفض العموم يستلزم تفسير الخصوصية بطريق غير ممكن.
وتلك النتيجة لا تَصْدُق ، وذلك العقار لا ينجع في معالجة الصداع الناشئ من عوامل أُخرى ، أو في أفراد مختلفين في الأمزجة ، أو إذا أُعطي بمقادير أقلّ أو أكثر ، ففي هذه الموارد لا يمكن الحكم بعمومية العلاج وسريانه.
وبذلك يعلم الفرق الجوهري بين الاستقراء والتجربة ، فالمستقرئ لا يجري عملية خاصة سوى المشاهدة ، ولا يستنبط علّة الحكم أبداً ، وليس له دافع إلى إسراء الحكم إلّا المشابهة. وهذا بخلاف المجرّب ، فإنّه يتسلّط على علّة الحكم ومناطه بحكم البرهان والعقل ، ويقف على أنّ علّة الخصوصية (التمدّد بمقدار معين والبرء) ليس إلّا نوعاً معيناً من الحديد في حرارة خاصّة ، أو تأثير العقار في الداء والمزاج المُعَيَّنَين ، وبالمقدار المحدّد ، وبعد ذلك يستعدّ العقل لانتزاع حكم كلّي هو أنّ كل حديد من التركيب الفلاني ، ينبسط بمقدار كذا عند حرارة كذا ، وهذا العقار ناجع في إبراء كل صداع ناشئ من العوامل الفلانية ، في المزاج الفلاني وبالمقدار الفلاني. ولو لا التسلّط على المناط والإحاطة بالعلّة ، لما قدر العقل على إسراء الحكم وتوسعته.