ومن هنا يتبين أنّه ما من معرفة طبيعية تجريبية إلّا وفي جنبها معرفة عقلية قطعية لولاها لكانت التجربة عقيمة غير مفيدة.
وممّن تنبّه إلى ما ذكرنا الشيخ الرئيس : فقد أجاب في سؤال من سأله عن علّة إيراث التجربة اليقين ، بأنّ التجربة ليست بمعنى أنّ تكرار المشاهدات يفيد اليقين ، وإنّما المشاهدات (العملية) تفيد اليقين بضميمة قياس عقلي (١).
وكذلك الحكيم السبزواري ، قال : العلم في التجربة منوط بأمرين : أحدهما المشاهدة ، والآخر القياس الخفي ، وهو أنّه لو كان اتّفاقيّاً ، لما كان دائماً ولا أكثرياً ، ثمّ يستثني نقيض التالي لنقيض المقدَّم (٢).
وللأسف ، إنّ التجربة بهذا المعنى قد نسيت في الجامعات العلمية ، فترى أنّهم يفسرونها بعملية تعميم وبسط ما تدركه الحواس الظاهرية والباطنية. وقد تطرق هذا الخطأ إليهم بسبب تبعيتهم للغربيين حيث يستعملون المشاهدة والتجربة مترادفين ، مع أنّ المشاهدة غير التجربة ، فإنّ كلّاً منهما أصلٌ من أُصول اليقينيات الست ، كما تقدّم.
نعم ، إنّما تفيد المشاهدةُ اليقينَ ، في موردها ، ولا تكون مبدأً لانتزاع حكم كلّي ، بخلاف التجربة فإنّها تكون مبدأً لقاعدة كليّة بحكم القياس العقلي. فإذا أردنا تفسير الاستقراء ، فلنفسّره بالمشاهدة ، وأمّا التجربة ، فتفسيرها بالمشاهدة ، تفسيرٌ ناقص ، وإنّما هي عمليات كثيرة مختلفة ، في أجواء متنوعة ، يشهدها الحسّ الظاهري أو الباطني ، ثمّ يعمّم نتيجتها في ضوء حكم العقل.
نقل وتحليل
قد عرفت أنّ تعميم حكم التجربة في مورد ، إلى جميع أفراد الطبيعة ومصاديقها الّتي لم تجر فيها التجربة ، إنّما هو بحكم العقل القائل بأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد. وبعبارة أُخرى : يحصل للمجرّب ، بعد تكرر
__________________
(١) منطق الشفاء : ٩٦ ، ط مصر.
(٢) شرح المنظومة ، لناظمها : ٩٠.