يواجه في المرة الثانية بمثل ما وُجه به في المرة الأُولى ، فكأنّ الطبيعة عنده متحدة الحقيقة والاقتضاء.
نعم ، ثبوت هذا الأصل على الوجه العلمي ، يتوقف على تجارب كثيرة غير متناهية ، في مختلف أصناف الطبيعة وأنواعها ، حتّى يحصل له العلم بهذا الأصل ، وهو ما أسماه ب «الاستقراء العلمي» ، ويتمكن بالتالي من تدوين العلوم والقوانين والسنن ، في ضوء هذا الأصل. فالقول بأنّ الطبيعة متحدة الحقيقة والاقتضاء ، عبارة إجمالية عن هذه التجارب غير المتناهية (١).
يلاحظ عليه : إنّ التجارب المتضافرة الكثيرة التي أسماها ب «الاستقراء العلمي» ، هي أيضاً غير مفيدة للعلم بهذا الأصل (الطبيعة متحدة الحقيقة والاقتضاء). لأنّ استقراءه ، وإن كان كثيراً منسَّقاً ، ولكنه بعدُ محدود ، فمن أين علم بسريان النتيجة إلى ما تبقى من الموارد غير المتناهية ، الّتي لا يفي عمر الإنسان لإجراء التجربة فيها ، والمفروض أنّ هذا الأصل غير ثابت بعد ، ونحن في طريق إثباته.
وبذلك تصير نتائج التجارب العلمية ، ظنوناً متراكمة ، مشوبة بالشك ، وبذلك ينسلخ عن العلوم وصف الجزم والقطعية. وقد اعترف «ميل» بذلك إذ يقول : العلوم التجريبية لا توجب اليقين المطلق ، وليس عندنا اطمئنان مطلق بأنّ غداً سيأتي نهار بعد هذه الليلة. ولكن هذا الشك شك نظري فقط ، وإن كانت لتلك العلوم قاطعية عملية(٢).
والحق في إضفاء القطعية والكلية على نتائج التجارب ، هو ما ذكرنا.
التجربة والحضارة الإسلامية
التجربة من أسمى أدوات المعرفة في العلوم الطبيعية ، وفي ظلّها يصل
__________________
(١) لاحظ الفلسفة العلمية ، ل «فيليسين شاله» eyallahC neicileF ، ص ١١١ ـ ١١٢ بتصرّف وتوضيح منّا.
(٢) المصدر السابق نفسه.