والعلم من هذا القبيل ، لأنّها من الأُمور التي يعايشها الإنسان في جميع لحظات وفترات عمره إلى أن تفارق روحُه بَدَنَه. وهي من الآمال التي يطمح إليها كل إنسان في يومه وساعته. فلذلك لم نكن في حاجة مُبرمة إلى تعريفها.
وإلى ما ذكرنا ذهب الإمام الرازي (٥٤٣ ـ ٦٠٦ ه) ، فقال بأنّ العلم أمر ضروري ، وهو مستغنٍ عن التعريف ، واستدلّ على ذلك بوجهين :
الأول : إنّ عِلْم كُلِّ أَحَدٍ بأنّه موجود ، ضروري ، أي حاصل له بلا اكتساب ونظر ، وهذا علم خاص ، متعلّق بمعلوم خاص وهو وجوده ، والعلم المطلق جزء منه ، لأنّ المطلق ذاتي للمقيّد ، والعلم بالجزء ، سابقٌ على العلم بالكلّ. فإذا حصل العلم الخاص ـ الذي هو حاصل لكلّ أحد بالضرورة كان العلم المطلق ـ الذي هو جزؤه ـ سابقاً عليه ، والسابق على الضروري أولى أن يكون ضرورياً ، فالعلم المطلق ضروري ، وهو المطلوب.
الثاني : لو كان العلم كسبياً معرَّفاً ، فإمّا أن يُعرف بنفسه ، وهو باطل. أو بغيره ، وهو باطل أيضاً ، لأنّ غير العلم إنّما يعلم بالعلم ، فلو علم العلم بغيره لزم الدور ، لتوقف معلوميّة كل منهما على معلومية الآخر(١).
وفي مقابل ما ذكرناه من ضرورية العلم وعدم احتياجه إلى التعريف ، رأيان آخران نشير إليهما :
١ ـ إنّ تعريف العلم ليس ضرورياً ، بل هو نظري ، ولكن يعسر تحديده. وإليه ذهب إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (٤٧٨ ه) (٢).
وتبعه الغزالي (٤٥٠ ـ ٥٠٥ ه) في ذلك ، قال : يعسر تحديد العلم بعبارة محرّرة جامعة للجنس والفصل الذاتيين ، فإن ذلك متعسّر في أكثر الأشياء ، بل في أكثر المدركات الحسّية ، فكيف لا يعسر في الإدراكات الخفية (٣).
__________________
(١) شرح المواقف ، ج ١ ، ص ٦٢ ـ ٦٦ ، بتصرّف وتلخيص. وكان على الرازي الاكتفاء بما ذكرناه من دون إقامة البرهان على كونه بديهياً ، لعدم حاجته إليه.
(٢) شرح المواقف ، ج ١ ، ص ٦٧.
(٣) المستصفى ، ج ١ ، ص ٢٥ ، بتصرف.