غير أنّ هناك غموضاً في كفية صنع الكليات من مشاهدة الجزئيات ، والرابطة المنطقية القائمة بين المعرفة الحسيّة والمعرفة العقلية. فانّ الإنسان عند ما يطل بنظره إلى أفراد محدودة ، كيف يصنع منها مفهوماً كلّياً يشملها وغيرها؟ أو أنّه عند ما يجري عملية التجربة على عناصر خاصة ، كيف يصنع منها قاعدة كلية تعم ما جرّبه وغيره؟
إنّ هذا العمل يشبه في بادئ النظر ، عمل المصور الّذي يلتقط صورة لعدة أشخاص معينين في مجلس ما ، ثمّ يدلّس في الصورة ، فيدخل فيها صور أشخاص لم يكونوا مع الذين التقطت صورتهم. فإنّ عمل العقل في مجالي التصور والتصديق من قبيل تبديل المعرفة الحسية المحدودة إلى معرفة عقلية كلّية تشمل ما لم يكن داخلاً في المعرفة الحسية. ولكن الحقيقة أنّ هناك فرقاً بين عمل العقل وعمل ذاك المصوّر ، فما هو؟
الرابطة المنطقية بين المعرفة الحسية والمعرفة العقلية
إنّ هذه المعضلة (كيفية صنع الكليات من مشاهدة الجزئيات) مطروحة في الفلسفة الغربية ، وقد حاول الكثير من الباحثين في نظرية المعرفة الإجابة عنها ، أمثال : «كانت» و «هيجل» ، ولكنهم لم يصلوا إلى شيء مقنع ، وسنذكر فيما يأتي ما أجابوا به.
وقد سبقتهم الفلسفة الإسلامية إلى حلّها ببيان يظهر ممّا تقدم إيضاحه عند البحث عن عمليات أداة العقل ، فقلنا إنّ منها إدراكه للمفاهيم الكليّة وذلك بنحوين : إمّا عن طريق التجريد والانتزاع ؛ أو عن طريق تبديل المعرفة الحسيّة إلى المعرفة العقلية بالخلق والإبداع، كما ذهب إليه الشيخ الرئيس أو الارتقاء من درجة إلى أُخرى كما ذهب إليه صدر المتألهين ، فلا نعيد.
وعلى ضوء ذلك يظهر الفرق بين عمل العقل وعمل ذاك المصوِّر الّذي يقصد إشراك من لم يكن في المجلس ، فإنّ العقل لا يزيد على المعرفة الحسيّة شيئاً ، وإنّما يرقِّي معرفته إمّا عن طريق حذف المشخصات والأخذ بالمشتركات ، أو بأنّ النفس بعد مشاهدة المميزات والمشتركات تستطيع خلق مفهوم كلّي ، أو أنّها هي بذاتها تتكامل إلى معرفة أرقى.