نوع جديد يغاير الماء بدليل تغاير آثارهما. فالأوْلى أن يعبّر «هيجل» عن مقصوده بأنّ التغيرات الكيفية التدريجية ربما تبلغ درجة تنقلب فيها الطبيعة إلى نوع آخر. فينبغي أن يقال في مثل الماء : إنّ التبدّلات الكيفية التدريجية في الماء تتحول إلى تبدلات نوعية.
وثانياً : لو صحّ هذا الأصل ، فلا يصحّ في هذا المقام أيضاً ، وذلك لما عرفت من أنّ هذا التبدّل ينتهي إلى تبدلات ماهوية وتغيرات جوهرية ، فعند ذلك تفقد المعرفة العقلية صلتها بالمعرفة الحسيّة ، فكيف تكون حاكية عنها ، مع أنّهما من نوعين مختلفين جوهراً وماهية.
وإن شئت قلت : إنّ نسبة المعرفة العقلية إلى المعرفة الحسيّة ، كنسبة البخار إلى الماء ، بل كنسبة الذهب إلى النحاس على ما هو المنقول من أنّ بعض الكيميائيين القدماء كانوا يستطيعون بمعالجات كيميائية قلب النحاس إلى الذهب ، فعندئذٍ تكون الصورة الحسيّة كالنحاس ، والمعرفة العقلية كالذهب ، وبينهما بون شاسع بعيد ، واختلاف في الجوهر ، فلا يمكن جعل أحدهما حاكياً عن الآخر.
وعلى ذلك ، فالقائل بهذا الأصل يجب أن يُعَدّ من المثاليين الذين ينكرون كاشفية العلم عن الواقع ، وقد تعرفت فيما مضى على أنّ الصلة الموجودة بين العلم ومحكيّه هي صلة الكاشفية والمكشوفية ، لا صلة التوليد والإنتاج ، وأنّ نسبة العلم إلى محكيه ليس كنسبة الوالدين إلى ولدهما أو نسبة الندى إلى البخار ، فإنّ تصوير الرابطة بهذه الصورة يستتبع المغايرة وهي تنتهي إلى نفي الكاشفية المنجر إلى إنكار الحقائق الخارجية أو التشكيك فيها.
فليس للفيلسوف الموضوعي إلّا ولوج الباب الّذي ولج فيه الفلاسفة الإسلاميون ، وتفسير المعرفة العقلية بإحدى الصور الثلاث المتقدمة.
٣ ـ المعرفة الآيوية عند الفلاسفة الإسلاميين
وهناك معرفة أُخرى عند الفلاسفة الإسلاميين وتسمّى بالمعرفة الآيوية أو تبديل المعرفة السطحية إلى معرفة عُمْقِيّة.