ولكن مع ذلك كلّه تراهم إذا وصل الأمر إلى المسائل العقائدية وما يرجع إلى ما وراء الطبيعة ، ينكرون الاستدلال الثاني ، أو يشكّون فيه ، مع ما عرفت من جريان سيرتهم العملية عليه في أمورهم العادية. وهذا ممّا ينقضي منه العجب!!.
وبرهان النظم الّذي يعتبر من أهم أدلّة الإلهيين على إثبات صانع العالم ، يرتكز أساساً على الاستدلال بالآية على ذيها بصور وتقارير مختلفة (١).
ومجمل القول فيه هو أنّ العقل إذا لاحظ النظام البديع بما فيه من النواميس المبنية على القواعد الدقيقة ، يذعن بأنّه صادر عن فاعل عالم محيط بالمادة وخصوصياتها ، والقوانين والنواميس المتحكمة في أجزاء الكون ، من ذرّته إلى مجرّته ، وأنّه لا يصحّ أن يستند هذا النظام إلى نفس المادة الصمّاء ويعدّ من آثارها ، أو يستند إلى الصدفة. وهذا استدلال عقلي آيوي.
القرآن والمعرفة الآيوية
ركز القرآن الكريم على هذا النوع من المعرفة ، وكرر في كثير من آياته قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) (٢) * ، و : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) (٣) * ونحو ذلك ممّا يفيد تأكيده على لزوم التعرف على ذاته سبحانه وأسمائه وصفاته وما فيه من الكمال والجمال ، عن طريق النظر والتدبر في آثاره وآياته ، نظير الاستدلال بالموسوعة العلمية على تبحّر مؤلفها وجامعيته في المعرفة.
فذاته سبحانه ، بما أنّها مجهولة الكنه ، لا يسع العقل البشري الممكن أن يتعرف عليها ، فلذا لم يكن بدٌّ من اللجوء إلى آثاره ، والنظر فيها ، والاستدلال بها على ما في مؤثرها من كمال وجمال ، وهذا الطريق متاح للجميع.
__________________
(١) سيوافيك بيانها في بحث إثبات الصانع.
(٢) الروم : ٢٠ و ٢١ و ٢٢ و ٢٣ و ٢٤ و ٢٥ و ٤٦ ، فصّلت : ٣٧ و ٣٩ ، الشورى : ٢٩ و ٣٢.
(٣) يونس : ٦٧ ، الرعد : ٣ و ٤ ، إبراهيم : ٥ ، الحجر : ٧٥ ، النحل : ١٢ و ٧٩ ، مريم : ١٢٨ ، المؤمنون : ٣٠ ، النمل : ٨٦ ، العنكبوت : ٢٤ ، الروم : ٢١ و ٢٢ و ٢٣ و ٢٤ و ٣٧ ، لقمان : ٣١ ، السجدة : ٢٦ ، سبأ : ١٩ ، الزمر : ٤٢ و ٥٢ ، الشورى : ٣٣ ، الجاثية : ١٣.