وعن الثاني بقولك : ما هو ملاك معرفة الحقيقة وتمييزها عن خلافها؟
وإن أردت قلت بعبارة ثالثة : البحث في الأوّل بحث كليٌّ ، لا يمت إلى قضية خاصة بصلة ، وإنّما العقل يقسّم الأفكار والقضايا إلى حقّة وباطلة ، فنسعى إلى معرفة الملاك الّذي به تنقسم القضايا إلى ذينك القسمين. ولكن البحث في الثاني بحث عن قضية شخصية مطروحة في باب فلسفي أو علمي ، نريد أن نعرف أنّها قضية حقيقية أو باطلة ، فنسعى إلى إثبات وجود ملاك الحقيقة أو ضدها فيها.
ولنمثل لذلك بالعالم الطبيعي الّذي يبحث عن حقيقة الذهب والفضة ، فبعد البحث والتحليل يتوصل إلى أنّ الذهب هو عنصر طبيعي ، معدني ، أصغر اللون ، رنّان ، يذوب عند درجة (١٠٦٣) سانتيغراد ، ويغلي عند درجة (٢٩٧٠). والفضة عنصر ، طبيعي ، معدني رمادي اللون ، يذوب عند درجة (٨ و ٩٧٠) سانتيغراد ، ويغلي عند درجة (٢٢١٠).
ثمّ بعد ما تبينت له الحقيقة بصورتها العلمية ، ربما يواجه قضية جزئية ، كتشخيص هذا الخاتم الّذي يلبسه ، هل هو ذهب أو فضة ، فهنا يحتاج إلى ملاك آخر ، يوصله إلى معرفة أيٍّ من ملاكات حقيقة الذهب والفضة موجودة فيه.
ولأجل ذلك فصلنا البحث الثاني عن الأول ، وهما من المباحث المهمّة في نظرية المعرفة ، وفي هذا الفصل نبحث في المجال الأول ، ونستعرض آراء الفلاسفة القدامى والجدد فيه.
* * *
١ ـ نظرية الفلسفة الإسلامية
يرى الفلاسفة الإسلاميّون أنّ القضية الصادقة هي المطابقة للواقع ، والكاذبة هي المخالفة له. وإليك توضيح نظريتهم :
إذا قيس موجود إلى موجود آخر ، فإمّا أن ينطبق أحدهما على الآخر ، كالذراع على الذراع ، والمتر على مثله ، فعندئذٍ يرى بينهما التوافق والانطباق ،