خلطوا بينهما وضربوا أحدهما بسهم الآخر ، وإليك البيان :
ما ذكره النسبيون إنّما يصحّ في الأُمور النسبية الإضافية ، وهي ما كان قوام حقيقتها بالنسبة والإضافة ، من دون أن يكون لها في حدّ ذاتها واقع محفوظ على كل حال ، كالسعة والضيق ، والكبر والصغر ، والفوقية والتحتية ...
مثلاً : افرض إنساناً يعيش في كوخ حقير لا تتجاوز مساحته عشرين متراً مربعاً وآخر غني يعيش في قصر عظيم تحيط به حدائق شاسعة مترامية الأطراف ، لا تقلّ مساحتها عن خمسين ألف متر مربع ، فإذا وردا مدرسة أمامها ملعب ، ولنفرض أنّ مساحتها بأكملها خمسمائة متر مربع ، فإنّا نرى الأوّل يستهولها ويصفها بالعظمة والكبر ، بينما الثاني يستصغرها ويصفها بالضيق والصغر. فلا شك هنا أنّ كلّاً من التوصيفين صحيح ، لكن بالنسبة إلى ما في نفس كلِّ واصف ، فالأوّل إذْ يصفها بالكبر والعظمة ، إنّما يصفها بذلك بالقياس إلى كوخه الحقير ، والثاني إذْ يصفها بالضيق والصغر ، فإنّما هو بالإضافة إلى قصره العظيم.
وهكذا إذا قلنا : الأرض كبيرة ، وقلنا : الأرض صغيرة ، فإنّ كلا القضاءين صحيح ، لكن كلٌّ بالنسبة إلى أمر ، فالأرض كبيرة بالنسبة إلى القمر ، وصغيرة بالنسبة إلى الشمس.
فليس للصغر والكبر واقع محفوظ حتّى نقيس القضاءين إلى ذلك الواقع ، ونصف أحدهما بأنّه حقّ ، والآخر بأنّه باطل. بل واقعيتهما هي بنفس الإضافة والنسبة القائمة بالنفس والذهن.
فما ذكره النسبيون إنّما يصحّ في مثل هذه الأُمور الإضافية الّتي لا واقعية لها إلّا ملاحظة الإضافة بين المقيس والمقيس عليه.
وأمّا الأُمور الّتي لها واقعية وراء النسبة والإضافة ، ولها حقيقة محددة يحكي عنها العلم ، ففيها يكون أحد القضاءين صحيحاً قطعاً ، وهو ما وافق الواقع وطابقه ، والآخر باطلاً قطعاً ، وهو ما خالفه. فقولنا : «درس أرسطو عند أفلاطون» ، وقولنا : «لم يدرس أرسطو عند أفلاطون» ، لا يمكن أن يكونا صحيحين وصائبين ، بل أحدهما حقّ قطعاً والآخر باطل قطعاً.